لعمري لكل موضوع قصة، ولحظة مثيرة تجعله يقفز إلى اولوية أجندة الكتابة عنه. فيعكف الكاتب ليخصص له الوقت ويسترجع فيه القراءة والافكار الداعمة، وربما الأخرى التي تعارض. ولعمري أن يساق الموضوع حتى تحريره وبثه لعمري ذاك جهد آخر. فتجربتي المحدودة تقول كتابة مقال من ثلاثة إلى ستة صفحات قد يكلف الكاتب الجلوس وتحرير النصوص لمدة تصل إلى ستة ساعات متواصلة. وهذه الكلمات هي مدخل في المنهجية يرجى أن يستفيد منه الشباب المهتمون. بقي أن قصة القفز والدخول لكتابة هذا الموضوع (إعادة كتابة التاريخ) أنّي التقيت أحد الشباب على هامش اجتماع مناقشة المنطقة الافريقية الحرة بمبنى مفوضية الاتحاد الافريقي باديس أبابا. سألته عن موطنه. أجابني السروراب. نعم أعرفها ولقد زرتها لواجب اجتماعي لاسرة صديقي جلال الدين الشيخ الطيب. فقد تجاورت اسرتينا حيناً، فكانت نعم الجيرة والصحبة. وعرفتُ من السروراب العميد شرطة المرحوم وقيع الله الطيب وقيع الله، الذي سمعته يوماً يتحدث في الإذاعة، فلم أملك نفسي إلا أن وقفت على بابه لأعرف وأتعرّف عيان وبيان على من ذا الذي يتحدث هذا الحديث العذب في ميكروفون الإذاعة. لأسال عنه مؤخراً فأعرف أنه غادر دنيانا لرحمة الباري، الله تقبله في الصالحين. قلت لإبني الشاب: هل تعرف أبوشامة عبدالمحمود. قال هو عمّي. قلتُ له أنا لا أعرف أبو شامة عبدالمحمود شخصياً، لكنّي عرفته من كتابه من أبا إلى تسلهاي. الكتاب الذي أعاد كتابة تاريخ المهدية. ولو كان بالمراد واليمين مطلوق لوهبته أعلى درجة علمية يمكن أن يمنحها مانح لمن يستحق. لقد ظل موضوع ومشروع إعادة كتابة التاريخ لمدة يطرق ذهني ، هذا كلمّا سمعته من متحدثين أو كاتبين من حقل السياسة أوالثقافة أوالمجتمع قيادة الدولة، مما يجعله من الموضوعات الفكرية والوجدانية لدى كل القطاعات المذكورة. وأرجو هنا أن أقدم بعض الاسئلة التي ربما تعصف بالذهن، وتبعث القارئ والباحث للقراءة بعين وقلب مفتوح. هل إعادة كتابة التاريخ تعني إعادة كتابة الحقائق أم تغيير تفسير الحقائق أم كلاهما. وهل التاريخ مكتوب بصورة خاطئة، إن كان تزويراً أو خطئاً؟، وهل هناك مصادر للتاريخ ، قديمة أو مستجدة لم تستنطق بعد لتتيح فرصة جديدة لإعادة كتابة التاريخ؟ وهل إعادة كتابته ستعود بالفائدة للوطن أو الأمة؟ وهل يكون مشروع كتابة التاريخ موضوع طوعي يفعله من يفعله ويتركه من يتركه؟ أو هو موضوع ملزم تخصص له الدولة الموارد وتصاغ له البرامج والميزانيات والجوائز، وأن تنشئ له المؤسسات وتوظف لها العلماء والباحثين؟ وهل هو إعادة كتابة أم كتابة من بدايتها؟ بل هل هو إعادة كتابة أم إعادة قراءة؟ وهل يا ترى هناك تجربة أو أكثر، لإعادة كتابة التاريخ على أي مستويً فردي أو جمعي؟ وهل ما حدث من إعادة كتابة للتاريخ، صغرت أم كبرت استفيد منها، وهل دخلت إلى غرف الدرس وقاعات المحاضرات؟، وهل لهذه التجارب من إعادة التاريخ أي أثر في تغيير وتحديث الحياة؟. ونعيد كتابته باي اللغات وأي الوسائط؟ وربما أسئلة أخرى تثيرها هذه الاسئلة المثيرة للجدل والكتابة، والرافعة لقرون الاستشعار. وفي جانب الحديث عن إعادة كتابة تاريخ السودان، نعي أن التاريخ المراد إعادة كتابته هو ذلك التاريخ الذي كتبه آخرون، باجندتهم ولاجندتهم. كتب السيف والنار ، حرب النهر ، عشر سنوات في سجون المهدية، ثم كتبوا السودان الدولة المضطربة وغير ذلك.. وقد تحقق لهم ما ارادوا من غزو واجتياح وتأثير. وقد وضعوا لشأنهم صورة زاهية، بينما تجاوزت بعض الكتابة لديهم نحو الجانب الآخر إلى حد الإساءات الشخصية للقادة ورموز المجتمع. لعمري ذاك شأنهم وتلك هي طريقتهم. أما شأننا نحن أنّنا على أصعدة كثيرة قلنا وظللنا نقول أننا نحتاج لإعادة كتابة تاريخنا. بل أنّنا نقول نريد أن نوثّق لحياتنا ثقافتنا وآدابنا وكثير منها يتتسرب من امام أعيننا. وأن المد يجتاحنا، فتتغير بموجبه ملابسنا واطعمتنا، بل يتعداه حتى لتغيير بشرتنا وملامح وجوهنا، فماذا إذاً نفعل؟ وبموجب ما ذكرته اعلاه قد قفز موضوع إعادة كتابة التاريخ إلى ذاكرتي وإلى لوحة مفاتيح حاسوبي ، مروراً بكل مراكز الحس و التفكير لديّ. وبقراءاتي المحدودة التي أرتادها هاوياً أجد أن هناك مجهودات مقدرة أسهمت في مشروع كتابة التاريخ. فاضافة لاساتذة التاريخ الذين فتحوا الطريق مثل مكي شبيكة، أبو سليم، ضرار صالح ضرار، يوسف فضل، التجاني عامر وآخرين ، ظهرت في الفترة الأخيرة ، كتب سودانية ذات طابع خاص منها: الصراع السياسي على السودان لجمال الشريف، تاريخ المهدية من أبا لتسلهاي لعبدالمحمود أبوشامة، كرري، شيكان للرائد عصمت حسن زلفو. الخليفة عبدالله وأمير الشرق لفيفيان أمينة ياجي. ولقد كتب الدكتور محمد سعيد القدال عن الإمام المهدي بعد أن تاكذ له أنه أن لا أحد كتب عنه.. وقد : كتب آخرون معاصرون، كتب فيصل عبدالرحمن علي طه، وكتبت فدوى عبدالرحمن ، وسامية بشير دفع الله وكتب ادريس البنا، كما كتب زين العابدين محمد احمد عبدالقادر، وقبله كتب المحجوب وكتب الازهري وكتب أحمد محمد خير وعبدالباسط سبدرات ، ومنصور خالد وحسن الجزولي وكتب محمد أحمد شاموق وعبدالله ابراهيم الصافي . وقد تحدث العلاّمة جعفر ميرغني كثيراً عن تاريخ الحضارة السودانية.. ويتحدث عبدالله حمدنا الله عن تاريخ المجتمع السوداني. وفي التاريخ الاجتماعي كذلك كتب حسن نجيلة وعون الشريف وجمعة جابر والفاتح الطاهر ومعاوية حسن يس، كذلك كتب حسن متوكل وسليمان سيد أحمد. ومن غير شك يوجد الكثير مما لم يذكر ولم يطلع عليه الكاتب. وبذكر كل هذه الإشارات هل من رصد لما كتب وهل من تصنيف له.. وهل هناك مساحة خالية لم يكتب فيها؟ ولعمري أن كتاب كرري لزلفو يمثل النسخة السودانية لكتاب ونستون تشرشل المسمى حرب النهر. وشيكان لعصمت زلفو يقابل بعض ما ورد في عشر سنوات في سجون المهدية منها يقابل. أما كتاب عبدالمحمود ابو شامة المسمى من ابا إلى تسلهاي هو النسخة السودانية لكتاب السيف والنار لسلاطين باشا، وكتاب ثيوبولد المسمى المهدية. كذلك كتاب جمال الشريف (الصراع السياسي على السودان) هو الصورة السودانية لكتاب قابريل روريج (الصراع على وادي النيل). أما كتب الدكتورة أمينة ياجي فهي تصحيح الكثير المغلوط والمغالطات عن الخليفة عبدالله، وعن أمير الشرق عثمان دقنة. إنه لمن الابداع المتقدم الذي يستأهل الاحتفاء أن ينشغل العلامة يوسف فضل لسنوات عديدة من عمره العامر أن يعيد تحقيق وإنتاج المعرفة بمشروعه المسمى سلسلة مصادر تاريخ السودان، وعلى رأسها كتاب الطبقات لو ضيف الله، وتاريخ سلطنة الفونج والإدارة التركية المصرية، ثم مخطوطة واضح البيان في تارخ ملوك العرب والسودان، ثم مخطوطة حصار الخرطوم. وغير ذلك من المخطوطات. قبل اسبوع من الآن اتصلت على الصديق جمال شريف أطايبه وأسأله عن حاله وماذا يفعل؟، لأجد الإجابة أنّي أفعل قليلاً وأتوقف كثيراً. وقد عرفت أن كتابه الذي غطّى بصورة تحليلية أكثر من مئة عام من تاريخ جمهورية السودان قد تناولته قناة الجزيرة معلقة عليه، وتناوله اسحق أحمد فضل الله لافتاً النظر للكتاب، ولا أحد بعدها. جمال شريف، الذي لا يزال في كمال الصحة والعافية، يعيش بيننا بجسمه النحيل وابتسامته التي تنمّ عن عقل وقدرات لم تستثمر. لا تعرفه مدرجات الجامعات عارضاً افكاره ولا تعرفه منتديات الفكر والثقافة جرحاً وتعديلاً. غير أن جامعاتنا لا تعرف كثيراً إلا من يقدم فروض الطاعة الرسمية لبضع سنين، ينال بعدها إجازته ورخصته الرسمية. وأما المرحوم عصمت زلفو قد كتب كتابيه كرري وشيكان بتوجيه حافز من الرئيس النميري أن يكتب السودانيون تاريخهم. لقد كانت لدي زلفو بدفع من رغبة القائد ومن ذات همته ليعيد كتابة التاريخ. ولحسن حظ التاريخ أنه استطاع عصمت زلفو في مطلع السبيعينات ، وقبل أن تتوافر أدوات الاتصال كما هي الآن، أن يجوب يجوب البلاد ليلتقي بمن شهد معركتي كرري وشيكان قبل أن يطويهم الثرى، فيعد كتابيه ويتوفر لهما النشر، ثم يسرع الخطى ويلحق بشيوخه الذين استنطقهم وذهبوا إلى ربهم. لقد كتب الرائد عصمت زلفو باحرف من ذهب. ولمّا كان هو من مؤسسة الدولة العسكرية التي لها خارطة معلومة في سلّم الإحتفاء والتكريم والترقي . ثم إن أكاديمياتها تمنح الدرجات العليا. وأن الجامعات تمنح الدرجات الفخرية. فهل سيجد عصمت زلفو حقه في التكريم في علمه الذي لاشك يجري مجرى الصدقة الجارية. سألت الابن الشاب عن عمّه ابو شامة، ليقول لي إنه حي يرزق ويسعي بين الناس، رغم كبر سنه. قلت له لعله هو ابن ابو شامة عبدالمحمود، مفتي السودان في بعض أوقاته. والذي ذكره بابكر بدريواصفاً إياه بكرمه واريحيته ذاكراً أنه في أحدى المناسبات الاجتماعية التي تتطلب الدعم أنه جاء حاملاً كل راتبه ولم يترك منه شيء. قال لي نعم هو ابنه. قلت فالبلد الطيب يخرج نبات بإذن ربه طيب. ويقول استاذ ابو شامة أنه بدأ إعادة كتابة التاريخ بقلم قرطاس لا يسويان شيئاً بحساب المال، وهمة امتدت لسبعة عشر عام، دخل فيها إلى مصادر التاريخ الأولية في أرشيف جامعات المملكة المتحدة ، ليتعرف إلى التاريخ الحقيق غير المكتوب. ليسطر كتابه الذي يقلب الطاولة على كثير من التاريخ المكتوب لأحداث الحقبة. لعمري لقد ابتكرت الدول والمؤسسات جوائز للعلماء والأدباء ، شهادات وراءها من المال ما يجعل النجباء من العلماء، بعد عناء السنين. وذاك مما يجعل نهر الإبداع جارياً وتدفع العلماء الشباب لئن يبحروا في علومهم وآدابهم عسى أن ياتوا بغير المسبوق وتصيبهم النفحات. هولاء لعمري ممن أعرفهم، لكن أقول أن الدولة والمؤسسات الراعية والداعمة لديها معرفة شاملة وإيديها لاحقة. وأنّ هؤلاء العلماء هم أحق ممن يكرموا ويكرم علمهم ليوثق بماء الذهب. بقي القول أنه قد إن كانت هناك حاجة لكتابة التاريخ ، فالحاجة أكبر لقراءة التاريخ الذي اعيدت كتابته وأعيد التحقيق فيه. وإنه من دواعي التربية الوطنية أن تعتمد الكتب المكتوبة باقلام سودانية أن تستخلص منها مواد لغرض التربية و التعليم وبناء الذات. الصادق عبدالله عبدالله عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.