الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صدور المجموعة القصصية (درب العافي) للأستاذ سيدأحمد العراقي من مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي
نشر في سودانيل يوم 12 - 05 - 2015

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
وجه قمر القرية الآخر .. تقديم: البروفسير/ عبد الله علي إبراهيم
هذا الكتاب حكايات عن الوجه الآخر من قمر قرية منحنى النيل للشايقية والبديرية التي تخلدت فينا كموئل للطيبة والحنان في غناء المنطقة الشعبي من لدن إسماعيل حسن ود حد الزين تجسده الأمهات من أمثالها حاملات "الحليلي إلى المراح" في دغش الصبح. وبالطبع لن تصمد رومانطبقية هذا القرية الشايقوبديرية في وجه حفريات بشرية مثل التي ستجدها في حكايات سيد أحمد العراقي.
فالحزازة فاشية في القرية ومحاورها تملك الأرض و الخلو منها، والأصل في الرق أوغيره. بل لربما كان اكتشافي الأول للموهبة العجيبة في الأخرنة (جعل الآخر موضوعاً لتمييز الذات بتبخيس الآخر) يوم وجدت من هم بقرى غرب النيل يسمون مثلي، من شرق النيل، ب"الشراقة" بنكهة من الدونية. وسار في عطبرة اسم "الشراقة" على نادي الشاطيء الرياضي الذي عصبته من قرية مورة من قرى شرق النيل. ويسمونهم "الفرانة" كذلك لأن استثمار تلك العصبة أكثره في الأفران.
وجدت هذه القرية الشايقوبديرية مغازيها الغراء، كمركز للكون السوداني، في سرد الطيب صالح. ولكنه وإن جاء بمثل جده كرموز لقمر هذه القرية إلا أنه لم يغفل عن الوجه الآخر من قمر القرية. فقد كانت عوالمه من المستضعفين من عبطائها والرقيق السابقين في "الدوحة"، موضوع المتعة المسترقة، مادة لمقالة حسنة لهذر شاركي، المختصة بتاريخ السودان الحديث، عنوانها "عبيد السودان السابقين: دراسة عن عرس الزين للطيب صالح". وجعل الطيب الزين، عبيط القرية، كاباً يستظل به مستضعفو القري مثل الحنين الصوفي المتجول وموسى الأعرج وعشمانة الطرشاء وبخيت المشلول الأشرم.

أوضح سمة في مستضعفي القرية أنهم خلو من ملكية لأي أرض بها. ف"ولد البلد" قرين بهذه الملكية. فمن ليس له أرضاً فهو "عربي" ساكت يطلقونها على البدو من أي إثنية أو عرق كانوا: عرباً أو بجة. وقد نشأت في أهلي أسمع أن جدنا باع أرضه "ومرقنا عرب ساكت". وحز ذلك في نفس أبي فاستعان بما وفره من أجر الحكومة في المدينة ليشتري أرضاً استرد بها هوية "ود البلد" بعد لاي. وقد صدمني في الهرج بالهوية ضارب الطناب بالسودان أن أجد من حقن السياسة المعاصرة ونزاعها في مصطلح "ودالبلد" المشار إليه. فقد حملَّ المصطلح سخيمة ليست أصلاً في حزازاته التقليدية. فقال إن الشماليين يعتقدون أنهم أهل البلد وما عداهم من نوبة وغرابة وغيرهم أجنبي. ووسع ضيقاً.
المرأة في خطاب الرجل بالقرية "حويان أو حيوان" وجمعها "حوايانات" ومتى ورد ذكرها أعقبوا ذلك ب"الله يكرم السامعين". وبينما يأخذ البعض على الشريعة جعلها المرأة نصف الرجل نجد شريعة القرى الذهبية تستبعد المرأة من الأرث جملة واحدة.
"ففي الكثيرون منا يفعلون ذلك" يضيق أحد العامرين، الحظيين في الرزق، بوعظ الذي وعظهم في الجامع بالقسط مع النساء في الميراث. ونرى في الحكاية تفتت جبهة النساء. الأم تظاهر ابنها ليستأثر بإرث الوالد دون البنات حتى لا يتشتت بين النسابة بواسطة الأخوات. وسعت الأم لحمل بناتها الثائرات على التنازل عن حقوقهن للابن متحالفة مع زوجة ولدها التي رغبت في أن يكون مال زوجها لولده.
والقرية محصنة ضد وهمات المدينة متى تعلقت بالمرأة في "قالو ياها الديمقراطية يا بخيتة". ففي نوبة مما أسمته سوندرا هيل ب"أنثوية الدولة"، أي الحالات التي تفرض الدولة تحرير المرأة ومساواتها من عل جداً.
فقد قررت الحكومة بعد حل الإدارة الأهلية قيام مجالس للقري حجزت للنساء ثلاثة مقاعد فيها بالقانون. ولم تقاوم القرية جهراً لأنها ماكرة تعرف من أين تؤكل الكتف. فوقع اختيار الرجال مكرهين على بخيتة بت عيسى لأنها "بتعرف تقرأ تريحنا من أقرأوا وأكتبوا" وضموا إليها اسمين آخرين تنزلاً عند وهم الحكومة. وكانت نفيسة والأخريات لا يجتمعن حقاً مع الرجال إلا من وراء حجاب. فمجلسهن في صالة الديوان حتى في الزمهرير لا في الديوان. وهن في الداخل في الصيف وهم في الحوش. وانتهز الرجال كل سانحة لمحو الحس الذي أرادت الحكومة إعطائه للنساء. فمتى قيل لبخيتة أن تقرأ أردفوا ذلك ب"أقري القر ينفخك". ومتى تكلمت قيل لها "أحشية يتحشي ليك". وفسدت أنثوية الدولة وتركت بخيتة اللجنة واسمها ما يزال في دفتر الحكومة عضواً بلجنة القرية بينما هي في واقع القرية "حويان ضمن حوايانات" .
الرقيق من وجه قمر القرية الآخر. و غضت القرية الطرف عن مسألة تحررهم بقولها "بقو أخوانا ما فارقونا" ولكن تحرير الحتيلي في "الحتيلي" بواسطة سيدها لم يتم إلا بعد أن استنفدت أغراضها. ثم حج سيدها وعتقها لوجه الله وبلغ بها الكبر عتيا
فاشتغلت بعد تحريرها رسمياً من سيدها بصنع المكروه وبيعه تطلب دخلاً مستقلاً. ولم يعتبر إبن سيدها بذلك فكان يعزم أصدقاءه ليعبوا من شرابها "وحليفتو حرم" مجاناً.. وخرجت إلى الحرية معاقة بصورة مطلقة. فأضطرب عقلها وصارت تهذي : "قال إنت حرة، أروح وين، اقع وين؟ مصيبة جاتك يا الحتيلي". ووجدوها ميتة ذات صباح فبلغوا الشرطة. وكان بلاغ للشرطة أول مدخل لها، وهي التي عاشت كجنحة،إلى سجل الحكومة.
ولا تجد تكذيباً لزعم القرية أن من أقام بين ظهرانيهم بعد التحرر "بقوا أخوانا ما فارقونا" مثل ما تجده في حكاية "العافي". فالعافي، بنت السرية، أخت حقيقة لبنت العربية. ولكن لم تتمتع بهذه الأخوة. فأختها سيدتها. وبلغت العافي ذروة تمردها من هذا الوضع غير الآدمي يوم انتقلت اختها إلى منزل ما ولم تعرض عليها أن تحل محلها فيه فتخرج من سكن الخرائب. بل عرضت على آخرين أن يحلوا محلها لأنها لم "تتخيل أن العافي وأمها يمكن أن يسكنا بمنزل مثل الآخرين". ووصف الكاتب هربها بأنه خروج من "حصارنا" الذي تبقى به مستعبداً واقعاً وحراً شعاراً. وكانت خدمتها حراسة السنابل من الأغنام في الحقل للنوريق. وهي عرضة للعقاب إن فرطت بعد التحذير. واكتشفت القرية هشاشة حيطان حصارها يوم ارتكبت العافية سفر الجفا. وويؤرخ لهروبها في القرية بمثل هو"مسك درب العافية" وبأغنية عن شغور محلها في حراسة العيش:
الله ياجرك ياعمتي العافي جنب العيش ما ها في
ونرى من ضعاف القرية "زين" الطيب صالح نفسه في شخص الفعج. و الجواب من عنوانه. فتسمية أحد بالفعج دلالة في بوار التجارة. فالفعج هو المصران الكبير ويستبعد من الأكل دون أجزاء البهيمة الأخرى لأنه "مخزن الشيط". لكنه حظي الفعج بربع ساعته في الأضواء، كما يقولون، حين ترامت الأخبار عن غناه بعد هجرته للأبيض. بل قيل إنه يركب ملاكي. وفكر ابن عمه أن يلحق به فالمدينة التي سخت مع الفعج ستغنيه حتى جنى الجنى. ولكن ابن العم "فجع" في المدينة حين وجد الفعج يسوق عربة كارو فارهة في المدينة. ما تغير شيء. فالفعج فعج ولو طالت غربته.
والطريق إلى المدينة يودي ويجيب. ففي "ألحق روحك يا قسم!" عن السقا الذي عاد إلى القرية من المدينة لمّا خسر زبائنه لفشو الصنابير في بيوت المدينة. وهؤلاء المنقلبون على أعقابهم مستضعفين ثقافياً. فهم عنوان لخيبة من "خانوا" القرية طمعاً في مجد المدينة. والعرجا لمراحها. وسمعت في بعض القرى من ينسبهم إلى ناد وهمي هو "نادي الماشين لورا" أي أنهم منذ يوم تلك الخيانة تردى حالهم لم تغنيهم المدينة ولم تغفر لهم القرية. صارت لهم حكاية هجين لا إلى هؤلاء ولا هؤلاء.
ولكن للمدينة نسائمها الرطيبة على القرية كما في "ماك تمباك يا عطانا". وهي قصة طريفة عن رجل صانع حبال وصديقه النجيض لا سروال له. جاء يستلف من صديقه صانع الحبال ، زوج عطانا ليتمكن من زيارة الكيك تاجر التمباك في زيارته السنوية للقرية. والتاجر يؤثر النجيض لأنه يحفظ شعر شاعره الشايقي المفضل المعروف: حسونة. وهو القائل في غي بت الفكي:
هوي يا أهل الشرق
وما تقولو المجنون غرق
ويكرم التاجر وفادة النجيض بعد أن لبس سرواله العارية. ويعود بطيبات المدينة فيقتسمها مع صانع الحبال وزوجته عطانا التي إنتظرت وتوقعت وفرحت لكنها تبخس مال التاجر الذي كسبه من التمباك قتقول لنفسها : "مال تمباك يا عطانا. لكن عندو طعم."
وتسكن إقليم الوجه الآخر لقمر القرية جماعة اسميها "الضعاف" تفصيحاً لوصف والدتي، التي كانت في سعة من الأرض، للذين لا أرض لهم: "زويلينن ضُعاف جونا بالدرب من وين ما بعرفو سكنو معانا". ولضعفهم الظاهر بين يدي الرب تتسع نفوسهم للبركة.
ومن أولئك ربما "ود بريمات" السقا. فعلى ضعفه كانت غيريته بينة في العناية بأزيار سبيل الماء فلا تجدها يابسة مطلقاً. بدأ ود بريمات المهنة طفلاً أخذها عن أمه. فكان كل لهو طفولته أن يتبعها حاملاً الماء "في علب العسل الخضراء وأسدها الإنجليزي":"الله ليك يا ود تريمات الذي يسقي لا ينتظر أجراً. يا ذا الرائحة العميقة "مثل الكسرة البايتة تحت غطاء سميك". ولهؤلاء الضعفاف بركة الحب.
فلود بريمات سكون قرآني إلى شريكة حياته لأن خيار الانقلاب عليها لا يوجد. فهو ينظر إلى شريكته في إشفاق وشوق: "مثل أي مخلوق ليس له القدرة على الكلام أو الحق فيه" .
ثم مات ود بريمات. لم يمر على الناس بالماء في يومه ذاك. وجدوه وزوجته ميتين. وكمثل ما يقع بعد موت هؤلاء الضعاف الصالحين ترعرعت كراماته بين الناس كأنهم يتخلصون بها من إثم إهمالهم الطويل لهم. فقالوا أن تربته كانت لينة. ثم طلعت من المقبرتين شجرتان هما كل ما في دافنة القرية من شجر. وصارتا موضعاً لزيارة النساء وندائهن (نديهتن) يا "بركة التحت الشدرتين". صار الضعيف ولياً وقبره ظاهر يزار.
من أعظم صور العقوق للقرية (والريف عامة) قول بعض الحداثيين إن حياة أهلها خلت من التسلية والمعنى معاً. برونق. ولم يحل دون هذه العقيدة الباطلة المجلس الذي صوره الطيب صالح في "موسم الهجرة إلى الشمال" وفيه أنس ضم بنت مجذوب أجرى دموع الرجال ضحكاً. ونوهتُ مرة بدفاع لدوين كابتيجن، المؤرخة للسودان، التي نقضت مثل ذلك القول وهي تعرض كتاباً لإنجليزي عاش في السودان واستفظع حياة الريفيين فيه. وتوقفت في هذه الحكايات عن وجه قمر القرية الآخر عند "كايدن" و" عوض نوبة" لأنه اجتمعت في حياتهما معان غريقة من الحب والطرب والمتع. ولا عزاء لمن أراد "تصحيح" حيواتهما بما يعتقد أنه الحياة المثال.
لا تبدو القرى موضعاً لحب رجل شيخ لزوجته من دون الناس. ولكن كايدن فُطر على حب زوجته ليلى التي غرقت في تساب 1988. فمج الدنيا، وهجر صنعة البناء. وظل يتربص بها في طريقها الأخير عند النهر الذي مشت عليه لحتفها. وأصبح في قول خالتك السرف: "كايدن ما ياهو. راح وراها". وأشتغل بصيد السمك. وحكى عن خيبته في السمك يوماً حتى نجح في جر كيان ثقيل قطع خيوطه وكسر سنارته. واتفق الناس أنه "كَرَّان"، اي ثقل ما من قاع النهر. ولكن في رواية كايدن نفسه أن الذي خرج له من النهر يومها هي ليلي حية من الماء لها لمعان وبريق. وكان ذاك يوم تصالحه مع محيطه واسترداد نفسه من ذهاب الخاطر. فسمع صوت الدليب فخف إليه لأول مرة وقد أخفى وجهه بشال لكي لا يعرف. ثم وجد حتى إمام المسجد هناك مقنعاً بهدمه. وكان ذلك بدء عهده بالمسجد طالما تكسرت الحواجز المصطنعة في روح القرية واجتمع الضعف والدين والطرب.
أما عوض نوبة فهو فنان يرسم للقرية إيقاعها. لم يدخل المدرسة فعمل جرسوناً. ثم اندرج في سلسلة أشغال عسيرة، عامل طاحونة، سقا، مساعد مراكب، ضارب دليب، فنوبة الختمية. وكانوا، أي الختمية،، كما قال الكاتب، "يسيرون خلفك نحو أفق كنت تراه وحدك" نحو شيء يحسونه ويحبونه ولا يرونه. ثم انتقل عوض للمزمار المعدني. ودرب عليه بعض شباب الختمية، وجاء بالمزمار الأبنوسي فأسفر عن لحون عظيمة استحق من الكاتب قوله:"الإيقاع داخلك أكبر مما نعرف"، "تضرب الدليب بروحك لا بالعصا" ،"هل تغير الدليب أم أن العوض عرف كيف يخرج أجمل ما فيه". وقالت إمرأة "رقيص البنات إتعدل مما جا العوض ومسك النقارة. مرق منهن البعرفن". واستمع مرة لتسجيل لدليبه على شريط فرقص "رقصا كما لم يرقص أحد من أنثى أو ذكر. رأينا كيف ينبغي أن يكون الرقص. وصارت رقصتك ختام حفلاتنا. اثناؤها يصمت الحضور. سكون عميق يطهر القوم من أوهامهم". ونلك رقصة زوربا. وهكذا جعل عوض نوبة من ساحة الحفل مركزاً تعنو له مراكز الجاه الأخرى. فالكل بإزاء صهيل الطبل سواء.
وللقرية ثوارها بالطبع. فليس من موضع على الأرض لم يخرج ثواره من رحمه. وبعض ثواره "حرامية أو حرمنجية تلطيفاً" مثل الطفل في "دخري الصرمان" الذي حاكى سيزيف سارق سرق النار من أولمب الالهة ليهديها للبشر. أما طفلنا في الحكاية فهو يسرق "الأشميق" الجيد من سبيقة حاج الخضر ليفتل الحبال لعنزات دخري الصرمان بغير أن تعرف. أما جيفارا القرية فهو "ود الفرتكاني" في الحكاية بنفس العنوان. وهو من سنخ القرويين الهامش الذين صاروا مركزا. فكان اعتزل القرية لما رأى حرب داحس وغبرائها بين الفريقين فيها: ود الخير وود عبد الله. ومع أن جدهم واحد إلا أن قلوبهم شتى وبرغم أنه لا يفصل بينهما سوى التل والغابة. فأعتزلهما ود الفرتكاني عند القوز. ولا يرد السلام على أحد منهم ولكن إن لم تسلم سأل: "الزول منو؟". ولا ينتظر منك إجابة ليخلص إلى لازمته الثورية: "ما فيكم فايدة ما فيكم رجا. قالوا أولاد عم عمى دقاسة. المايفضل فيكم واحد". فاستعصم بالقوز حتى اجتمع حوله نفر من "الملاقيط ساكت" صاروا يعرفون ب"القوازة". وأقاموا مجتمعاً مستقلاً عن القرية. قطعوا الغابة لتوسيع رقعة لزراعة وساووا التل ليمنع التساب. وصاروا أمة لوحدهم. وجاءتهم مكافأة كل مبتكر للتغيير لنجاحهم: "والله سووها ود الفرتكاني والقوازة".
وهناك ثوار ذاكرة الوجع في القرية ودبيب وخارطته على الجسد. ففي "حدث يوم ختان بنات أم الحسن" نجد إمرأة تحرر بنتها من الختان التقليدي لتختن في المستشفي: خطوة صغيرة في طريق طويل. فكانت استعدت تفصيلاً للمناسبة وأعدت بنتيها للطهّارة حاجة الزلال. ولكن كان داخلها يغلي شفقة وخوفاً على بنتيها اللتان ستخضعان لما خضعت له هي في ختانها فأمضها. فتذكرت جرحها الغائر من ذلك اليوم. كان كأنه مزق الحشا وسرى حتى القفص الصدري. كانت موثوقة بنساء لتستسلم لشفرة حاجة الزلال التي اكتسى وجهها تجهماً وصرامة غير معتادة فيه لزوم الشغل. ولما استبدت بها ذكرى ذلك اليوم "كدخان خانق يحيط بدواخلك" كاشفت الرجال بقرارها فلم ينم أحدهم بإعتراض لأن منطق الجرح في الذاكرة غلاب. لقد أنقصت الأم بنتيها بعض الأذى لولائها لمدونة الألم فحملت الناس هوناً إلى الأمل. فلو جبنت وتصالحت مع الألم كطبيعة ثانية لما تغير شيء.
نشأنا في المدينة باحتجاج عميق على المدينة ربما تسرب لنا من جيل أهلنا الأول فيها. لم تستطعم أمي قمح المدينة مطلقاً وكانت لا تفتأ تذكرنا بالطعم الآخر للقمح في قمر القرى. نشأنا وكأن عيشنا في القرية اختلاساً حتى اليوم الذي تعود فيه الناس "إلى أوطان قرابا" كما عند الشاعر الرباطابي الفحل عبد الحفيظ محمد أحمد. وتضافر مع الشجن القروي أن أكثر أدوات التعبير عندنا كان الشعر لا التحليل الاجتماعي. فصارت القرية فينا حالة رومانطيقية خالصة من مثل با "رمال حلتنا". وحجب وجه قمر القرية المضيء الوجه الآخر له. وكتاب سيدأحمد العراقي الذي بين يديك حفر أدبي عميق في هذا الإقليم المحجوب يؤذن بمعرفة أفضل للقرية ننتقل بها من الشجن إلى التحرير. وأسفر سيدأحمد العراقي في هذا الحفر عن علم غزير بالقرية، وشعاب لغتها، وتعمق في حيوات مستضعفيها زلزل رومانطيقية القرى صارت به القرية ربما أمتع وأشف وجميلة بواقعية وجه قمرها الآخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.