القوز يقرر السفر إلى دنقلا ومواصلة المشوار    لاعب منتخب السودان يتخوّف من فشل منظومة ويتمسّك بالخيار الوحيد    الدب.. حميدتي لعبة الوداعة والمكر    ⛔ قبل أن تحضر الفيديو أريد منك تقرأ هذا الكلام وتفكر فيه    إلي اين نسير    منشآت المريخ..!    كيف واجه القطاع المصرفي في السودان تحديات الحرب خلال 2025    صلوحة: إذا استشهد معاوية فإن السودان سينجب كل يوم ألف معاوية    إبراهيم شقلاوي يكتب: وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    كامل إدريس في نيويورك ... عندما يتفوق الشكل ع المحتوى    مباحث قسم الصناعات تنهي نشاط شبكة النصب والاحتيال عبر إستخدام تطبيق بنكك المزيف    عقار: لا تفاوض ولا هدنة مع مغتصب والسلام العادل سيتحقق عبر رؤية شعب السودان وحكومته    إجتماع بسفارة السودان بالمغرب لدعم المنتخب الوطني في بطولة الأمم الإفريقية    بولس : توافق سعودي أمريكي للعمل علي إنهاء الحرب في السودان    البرهان وأردوغان يجريان مباحثات مشتركة    شاهد بالفيديو.. الفنانة ميادة قمر الدين تعبر عن إعجابها بعريس رقص في حفل أحيته على طريقة "العرضة": (العريس الفرفوش سمح.. العرضة سمحة وعواليق نخليها والرجفة نخليها)    شاهد بالفيديو.. أسرة الطالب الذي رقص أمام معلمه تقدم إعتذار رسمي للشعب السوداني: (مراهق ولم نقصر في واجبنا تجاهه وما قام به ساتي غير مرضي)    بالصورة.. مدير أعمال الفنانة إيمان الشريف يرد على أخبار خلافه مع المطربة وإنفصاله عنها    وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مواجهة الاثنين للمساومة أم لتغيير قواعد اللعبة؟ .. بقلم: خالد التيجاني النور
نشر في سودانيل يوم 11 - 12 - 2009

الجدل القانوني العقيم الدائر بين السلطة ومعارضيها حول مشروعية تحرك تحالف جوبا، هو آخر ما يصلح لتفسير دلالات مواجهة الاثنين وعواقبها المحتملة على مستقبل أوضاع البلاد.
ويبدو اعتصام كل طرف بمحاولة إظهار وتأكيد المشروعية القانونية لموقفه من الحدث نوعاً من الاستغفال السياسي والتقليل من ذكاء الشعب السوداني الذي يتحدث كل طرف باسمه دون أن يملك تفويضاً حقيقياً بذلك مهما ادَّعى.
ولا يحتاج الأمر إلى براعة في التحليل السياسي ليدرك المواطن العادي أن مواجهة الاثنين ليس لها صلة بالادعاءات المرفوعة من الطرفين، ولا بالتكيف القانوني الذي يجتهد كل طرف في اثباته، الأمر ببساطة يتعلق بصراع إرادات سياسية بين المعسكرين وفي داخل كلا المعسكرين على حد سواء.
والمطلوب هو التكييف السياسي لهذه المواجهة وعدم قراءتها معزولة عن السياق العام بل يجب أن تكون مقروءةً مع مجمل الاستحقاقات والتطورات السياسية الراهنة في البلاد. وخارطة الطريق المعلومة والمطروحة في الساحة هي إكمال العهدة الدستورية بالتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام وبصفة خاصة الاستحقاقات الحاسمة المتعلقة بإجراء الانتخابات العامة، والاستفتاء على تقرير المصير للجنوب.
وحتى قبل مواجهة الاثنين كان المشهد يشير إلى أن العملية الانتخابية انطلقت مسيرتها بالفعل، وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهها أطراف المعارضة خاصة في شأن عملية التسجيل وهو ما اعتبرها السيد الصادق المهدي عيوباً تستلزم تصحيحها، إلا أن الثابت أيضاً أن ذلك لم يمنع القوى السياسية المختلفة من الانخراط في عملية التسجيل وحث انصارها على المشاركة فيها على الرغم من أن تحالف جوبا أعلن أنه لم يبت بعد في مسألة مشاركته أو مقاطعته للانتخابات حيث أرجأ ذلك من الموعد الذي حدده بنهاية الشهر المنصرم إلى وقت لاحق في الثاني عشر من الشهر الجاري، مع الإشارة إلى أن قوى تحالف جوبا شرعت عملياً في طرح أسماء مرشحيها المحتملين لسباق الرئاسة. وهو ما يعني خطوة متقدمة باتجاه التعاطي مع الاستحقاق الانتخابي على الرغم من التحفظات التي يطرحها في هذا الخصوص.
ومهما يمكن أن يقال من تجاوزات أو قصور في عملية التسجيل إلا أنها انتهت بقدر كبير من النجاح حيث بلغ السجل حسب المعلومات الأولية المتاحة الخمسة عشر مليوناً من الناخبين، وهو ما يعادل نسبة خمسة وسبعين بالمائة من جملة المؤهلين كناخبين، ومن المهم الإشارة هنا إلى أن نسبة تسجيل الناخبين في الجنوب تفوقت على نسبة التسجيل في الشمال، ففي حين سجل نحو أربعة ملايين ناخب في الجنوب وهي تفوق نسبة خمسة وسبعين بالمائة من جملة من يحق لهم التصويت، وتعادل نحو خمسة وعشرين بالمائة من جملة الذين جرى تسجيلهم في السجل القومي، فإن عدد الناخبين المسجلين في الشمال البالغ نحو أحد عشر مليوناً من الناخبين وهي تعادل نحو خمسة وستين بالمائة ممن يحق لهم التوصيت في الشمال.
ما أهمية هذه الأرقام في خضم الجدل الذي خلفته مواجهة الاثنين؟. قد يبدو للبعض أن ذلك تغريد خارج السرب في أتون هذه التطورات، ولكن تحليل هذه الأرقام شديد الأهمية في قراءة المشهد والحراك السياسي الحالي خاصة في معادلات الحركة الشعبية لتحرير السودان التي تقود تحالف جوبا بلا منافس على زعامتها له، وبغض النظر عما يمكن أن يثار من تحفظات بشأن عملية التسجيل في الجنوب وما يمكن أن يوجه إليها من أصابع اتهام من خصومها بالتلاعب في السجل الانتخابي، إلا أننا أمام حقيقة مهمة وهي أن لهذه الأرقام من عدد الناخبين في الجنوب، فضلاً عن الناخبين الجنوبيين المسجلين في الشمال بما في ذلك المناطق الثلاث جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان وابيي، لهذا العدد من الناخبين المفترض تأييد أغلبيتهم الساحقة للحركة الشعبية أهمية كبرى في المعادلة الانتخابية لجهة أنها من الممكن أن تكون عاملاً حاسماً في ترجيح كفة أيٍّ من المرشحين، وبالطبع سيعتمد ذلك على طبيعة التحالفات النهائية التي تتشكل بين يدي الاقتراع الانتخابي.
أما الاستحقاق الآخر المفصلي في خارطة الطريق لتنفيذ اتفاقية السلام يتعلق بقانون الاستفتاء وهو مدرج على جدول أعمال المجلس الوطني وينتظر أن يجاز في غضون الأسبوعين المقبلين، وعلى الرغم ما يبدو من خلافات عالقة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية حول قانون الاستفتاء فإنها ليست خلافات جذرية تتعلق بمبدأ إجراء الاستفتاء نفسه، ولكنها تتعلق بمسائل جانبية من قبيل النسبة الملائمة المفترضة للمشاركين في التصويت على تقرير المصير، والنسبة المطلوبة لتبني خيار الانفصال، وهي بالتأكيد ليست قضايا مبدئية ولكن حاجة الطرفين للمساومة حول قضايا خلافية أخرى بعضها معلوم للعامة مثل ترسيم الحدود، والمشورة الشعبية للمناطق الثلاث، بيد أن الأهم منها غير ظاهر ويتعلق بموقف الطرفين وتحالفاتهما الانتخابية المنتظرة، وهو مجال لصفقة لا بد منها لضمان مضي تنفيذ اتفاقية السلام إلى نهايته المرجوة
بسلاسة وبلا عقبات قد يفرضها تغيير معادلة نيفاشا ما بعد الانتخابات.
والسؤال المهم المطروح الآن، بعد استعراض المشهد السياسي وخارطة الطريق التي تحددها استحقاقات دستورية موقوتة بآجال معلومة، ما الذي حدث وقاد إلى مواجهة الاثنين التي فاجأت الكثير من المراقبين وبدت لهم خارج السياق السياسي العام الساري. مع أهمية الإشارة هنا إلى أن خارطة الطريق هذه لا تدفعها حسابات سياسية داخلية بل تدفعها إرادة دولية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية حيث أن إجراء الانتخابات والاستفتاء على تقرير المصير هي عناصر أساسية في استراتيجية أوباما التي أعلنتها إدارته في منتصف أكتوبر المنصرم.
وفي ظل هذه المعطيات المتاحة والمعلومة للجميع من الصعب قراءة دلالات مواجهة الاثنين باعتبارها حدثا اعتباطيا عابراً، وإقدام الحركة الشعبية على قيادة قوى المعارضة للخروج للشارع يتعدى مجرد ما هو معلن من أنها مجرد تحرك للضغط على المؤتمر الوطني لتمرير القوانين العالقة فيما تبقى من عمر البرلمان، وبالنظر إلى أنه ليس متصوراً أن ينفض البرلمان دون أن يجيز هذه القوانين، فإن الخروج إلى الشارع يشير بوضوح إلى أن غرض المعارضة هو إطلاق ثورة شعبية للإطاحة بسلطة المؤتمر الوطني، وهو ما عبر عنه صراحة بعض قادة المعارضة الذين ركز خطابهم على استدعاء أجواء ثورة أكتوبر في إشارة واضحة الدلالة،
وبهذا التطور البالغ الأهمية فإن المشهد السياسي السوداني أصبح على حقيقة جديدة هو اتجاه المعارضة لتغيير قواعد اللعبة من أساسها، تغيير النظام، والتوقف عن التعاطي مع اللعبة السياسية الراهنة المستندة على خارطة طريق اتفاقية السلام، وهو ما يضع البلاد برمتها على أعتاب حسابات جديدة لم تكن في الحسبان ستعيد تشكيل المشهد بكامله، هذا بالطبع إن لم يتم تتدارك هذه التطورات الخطيرة بمساومات بين أطراف اللعبة في المعسكرين.
والسؤال لماذا عمدت الحركة الشعبية إلى قيادة معسكر المعارضة إلى هذا التحول، وما هي مصلحتها في تغيير قواعد اللعبة وهو ما يعني بالضرورة أن تداعياته قد تقود إلى انهيار قواعد اللعبة التي أرستها اتفاقية السلام الشامل وتشكل الحركة طرفاً شريكاً فيها؟، والسؤال أيضاً يمتد إلى القوى المعارضة الشمالية الأخرى ما الذي يجعلها تفضل سيناريو تغيير قواعد اللعبة وما الذي يمكن أن تجنيه من ذلك؟.
وأهم من ذلك هل تجمع قوى تحالف جوبا على هذا السيناريو، سيناريو التصعيد باتجاه ثورة شعبية تمضي إلى نهايتها بغض النظر عن تداعياتها المحتملة، أم أن البعض يريدها وسيلة ضغط محسوبة للدفع باتجاه مساومة تؤدي إلى صفقة جديدة في إطار خارطة الطريق الراهنة؟.
لعل المهم هنا قراءة دوافع الحركة الشعبية من تبني خيار تغيير قواعد اللعبة، من المفهوم بالطبع أن تلجأ الحركة الشعبية التي استبطأت تمرير قانون الاستفتاء، وهو الاستحقاق الأكثر اهمية بالنسبة لها، وخبرت تلكؤ المؤتمر الوطني في إيجاد وسيلة ضغط على شريكها لتضمن تمرير أجندتها، وقد أفصحت الحركة الشعبية عن تبنيها لخيار الانفصال فلم يعد مصلحها مباشرة في إثارة قلاقل غير محسوبة قد تؤدي إلى انهيار عملية السلام بكاملها، أو تعطيلها على أقل تقدير، ومضت الحركة الشعبية أكثر من ذلك حين أبان مواقفها عن زهد بين في العملية الانتخابية على المستوى الوطني حتى أنها أفصحت عن أن زعيمها الجنرال سلفا كير ليس مرشحاً للرئاسة وسحبت ترشيحه من السباق الرئاسي حين طرح اسمه بين زعماء المعارضة المحتمل ترشحهم لهذا الاستحقاق، وفي واقع الأمر فإن هذا ليس موقفاً جديداً فقد أعلن الجنرال سلفا في مقابلة مع صحافي أمريكي العام الماضي أن الانتخابات في منتصف الفترة الانتقالية ليس خيارها، ولكنه فرض عليها بضغوط غربية إِبَّان مفاوضات السلام، وبالتالي فمن الواضح أن الحركة وضعت كل بيضها في سلة الانفصال، ولم تعد تلقي اهتماماً حقيقياً بالمشاركة في الانتخابات على المستوى القومي، ويذكر أن أغلب التحليلات ذهبت إِبَّان مؤتمر جوبا إلى رؤية التحالف المعارض الذي شكلته باعتباره عامل ضغط على المؤتمر الوطني أكثر من كونه تحالفاً انتخابياً ضد المؤتمر الوطني.
وحتى بافتراض ان التحالف الانتخابي هو غرض مؤتمر جوبا فذلك يقتضي تعزيز المسار الانتخابي وليس تغيير قواعد اللعبة، وفي الواقع فإنه على الرغم من الصورة الذهنية الراسخة من أن فوز المؤتمر الوطني بالانتخابات أمر محسوم، إلا أن تحالف المعارضة يملك فرصةً حقيقية لتغيير قواعد اللعبة عبر الصندوق الانتخابي، ولكن ذلك بالطبع رهين بتوحدها وتمسكها بمرشح إجماع، فالحركة الشعبية تملك على الأقل بحسابات التسجيل التأثير على خمس وعشرين بالمائة من الناخبين في الجنوب، وهي نسبة مؤثرة في النتيجة النهائية إذا نجحت المعارضة في تأمين نسبة مماثلة من الناخبين في الشمال.
والسؤال لماذا تغامر الحركة الشعبية بتبديد هذه الفرصة المتاحة باللجوء للتغيير عبر الشارع إذا كان ذلك ممكناً عن طريق صندوق الاقتراع؟.
ثمة من يرى أن خط التصعيد باتجاه الثورة الشعبية لا يعبر في الواقع عن الحركة الشعبية بكامل كيانها، ولكنه يعبر عن تيار داخلها، وثمة ملاحظة جديرة بالتنويه أن تعليق زعيم الحركة الشعبية على أحداث مجابهة الاثنين، على الرغم من إعلانه عن صدمته لما حدث، جاء متصالحاً متجنباً الصدام بل وآملاً في إيجاد حلول عبر الحوار مع المؤتمر الوطني.
ولعل ذلك يكشف عن أن خط الدفع باتجاه حافة الهاوية ليس خياراً مجمعاً عليه داخل الحركة الشعبية، وهو ما يشير إلى وجود تيارين توجهاتهما مختلفة بشأن خيارات الحركة الشعبية الاساسية، ويبدو أن التيار الغالب في الحركة الشعبية هو ذلك الملتف حول خيار الانفصال عبر تقرير المصير لتحقيق استقلال الجنوب، والعمل للدفع في ذلك الاتجاه دون المغامرة بما من شأنه أن يعرقل هذا المسار، وهو تيار يحظى بدعم الجنوبيين من خارج الحركة الشعبية الذين يرون في ذلك تحقيقاً لما حلم به الجنوبيون منذ عقود، وأنه لا مصلحة لديهم في تبديد هذه الفرصة التاريخية.
والتيار الآخر داخل الحركة، وهو تيار أقلية كما تشير إلى ذلك اقتصار الناشطين فيه على عدد محدود من قيادة الحركة، هو ذلك الذي لا يزال يؤمن برؤيتها ل «السودان الجديد الموحد بأسس جديدة» ، وهو أقرب ما يكون إلى أنه مدفوع بروافع أيدولوجية أكثر من كونه مهتم بتحقيق إرادة الجنوبيين الغالبة نحو الاستقلال، وهذا التيار مع إقراره بحقيقة أن الانفصال هو التوجه الغالب داخل الحركة، إلا أنه حريص على ألا يعني تقرير المصير طلاقاً بائناً مع الشمال، ويبحث عن صلة ما تظل تربطه به، ولذلك يبدو حريصاً على أن تلعب الحركة دوراً أيضاً في تقرير مصير الشمال عبر تحالف مع قوى سياسية شمالية معارضة تعمل على إطاحة المؤتمر الوطني، والحلول مكانه وإعطاء فرصة لإعادة توحيد البلاد بمعطيات جديدة.
وهناك من يرى أن دوافع هذا التيار ليس أيدولوجية فقط بل تدفعها حسابات قادته السياسية فانفصال الجنوب سيؤدي إلى إعادة تشكيل قواعد اللعبة في ساحة الحركة الشعبية حسب موازنات لا يملك قادة هذا التيار حظاً كبيراً فيها مما يجعلهم عرضة ل «التهميش» هذه المرة ليس بفعل الهيمنة الشمالية، ولكن بفعل هيمنة الموازنات القبلية التي تلعب دوراً مهماً في الساحة الجنوبية.
مهما يكن من أمر فإن التصعيد الذي أحدثته مواجهات الاثنين دق جرس إنذار في وسط التيار الغالب داخل الحركة وهو ما جعل الفريق سلفا يجنح للتهدئة، فهذا التيار يدرك أن سيناريو تغيير قواعد لعبة خارطة الطريق واللجوء إلى خيار الثورة الشعبية لإزالة سلطة المؤتمر الوطني لا أحد يملك التحكم في نتائجه الأخيرة والتي قد يكون من بينها أن تذهب أدراج الرياح المكاسب التاريخية التي حققتها اتفاقية السلام الشامل، وستعني أن حلم الجنوبيين في وطن مستقل عبر ترتيبات سلمية قد لا تتوفر قريباً، ولذلك فالمتوقع أن يمارس التيار الغالب داخل الحركة ضغوطاً على قادة تيار «السودان الجديد» لوقف المزيد من التصعيد.
وبالطبع ستشهد الفترة المقبل صراع اجندات داخل قوى تحالف جوبا، فالتيار الغالب داخل الحركة الشعبية يريد من هذا التحالف وسيلة ضغط محسوبة لا تطيح في نهاية الأمر بمكاسبه التاريخية، بينما تريد قوى آخرى من المعارضة الشمالية مستعينة بالتيار الأيدولوجي داخل الحركة بتغيير قواعد اللعبة كليةً في المشهد السياسي وهو ما يتناقض بالضرورة مع مطالب التيار الغالب فيها.
وربما يكون الجنرال سلفا كير، البعيد نسبياً عن مواجهة الاثنين، الرابح الأكبر من تداعياتها، فقد بات يملك كرتاً قوياً للضغط على المؤتمر الوطني للحصول على أكبر قدر ممكن من المكاسب في القضايا الخلافية العالقة، ومن المؤكد أن المؤتمر الوطني الواقع أصلاً تحت ضغط كبير بفعل مواجهة الاثنين، فعلى الرغم من أنه نجح في السيطرة «أمنياً» إلا أن ذلك كلفه ثمناً سياسياً باهظاً، سيكون أكثر استعداداً لتقديم تنازلات مُرضية للجنرال سلفا وللتيار الغالب في الحركة الشعبية. وهو ثمن لا بد منه لتعزيز قدرة هذا التيار للوقوف في وجه محاولة الساعين لتغيير المعادلة الراهنة.
ولعل هذه واحدة من المرات القليلة التي يجد فيها المؤتمر الوطني أن من مصلحته أن يسارع إلى خدمة أجندة الجنرال سلفا، وهو ما يقتضي أن يسارع إلى تلبية مطالب الحركة الشعبية في القوانين المتبقية بما ينزع فتيل التصعيد.
غير أن إبرام صفقة مع الجنرال سلفا وحده ليست كافية، فالمؤتمر الوطني يحتاج إلى إجراء حوار وطني عميق مع القوى السياسية المختلفة فلا يزال هناك وقت لتجاوز هذه الأزمة الخطيرة بما يكفل تحولاً سياسياً سلمياً، لأن استمرار مسلسل استعراض القوة من هذا الطرف أو ذاك إن لم يتوقف برؤية عميقة ومعالجة حكيمة لن ينجو أحدٌ من عواقبه السيئة، ومن السهل إثارة الفوضى، ومن الصعب دائماً أن يزعم أحد أنه يملك أن يوقفها اللهم إلا أن أراد أن ينتحر قبل غيره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.