منذ أن وُجدت الدولة, كان من أولي مهامها حفظ أمن وسلامة المواطن, وبسط سيادتها علي رقعتها الجغرافية. بل هما أمران كانت تقوم بهما القبيلة خير قيام قبل وجود الدولة السودانية. وبسط سيادة الدولة علي أراضيها أمر مُطلق ولا يتجزأ, بحيث لا يحق حتي للأمم المتحدة إنتهاكه. بل إن ميثاق الأممالمتحدة والقانون الدولي يكفلان للدول حقها في الدفاع عن سيادتها ووحدة أراضيها. بخلاف كل الأنظمة السودانية, منذ الدولة المهدية, فشل نظام المُحافظين الجُدد في كلا المهمتين فشلاً ذريعا. فعن الأولي, نكتفي بالرقم الذي يعترف به البشير عن ضحايا دارفور وهو تسعة ألف قتيل. وعن الثانية اُقتطع جزء عزيز من الوطن في الشمال الشرقي. طابا: تبلغ مساحة طابا 508 فدان أو ما يساوي كيلومتراً واحداً مربعاً. في بداية الإنسحاب الإسرائيلي من سيناء عام 1982, حسب إتفاقية كامب ديفيد, أعلنت إسرائيل أن طابا داخلة في نطاق فلسطين خلال فترة الإنتداب البريطاني, وبالتالي, رفضت الإنسحاب منها. وقبيل بداية الإنسحاب, قامت إسرائيل بتغيير علامات الحدود, التي كانت موجودة منذ العهد العثماني, من مواقعها. ونشأ النزاع بين مصر وإسرائيل حول أحقيتها. طار الكسندر هيج, وزير الخارجية الأمريكي إلي القاهرة في محاولة لإقناع مصر بالتنازل عنها لصغر حجمها. فأجابه حسني مبارك: وهل يمكنك أن تتنازل عن أحد أبنائك مقابل أي شيء؟ ثم لجأت مصر للقضاء الدولي لحل النزاعات بالطرق السلمية والتمسك بأحكام القانون الدولي. بعد إبراز العديد من الوثائق والخرائط, أصدرت هيئة التحكيم الدولية في جنيف قرارها في سبتمبر 1988 بأحقية مصر في طابا (الطريف أن بعض الوثائق التي قدمتها مصر موجودة في دار الوثائق السودانية). إعتبر المصريون ذلك فخر ونصر قومي لدرجة أن النظام إعتمد يوم التحكيم عطلة رسمية في مصر. حلايب تبلغ مساحة مثلث حلايب 20,600 كيلومتر مربع. ورغم أنها محاطة بالصحراء, إلا أن مناخها مختلف إذ توجد فيها نباتات وحشائش وحيوانات برية لوجود جبال إلبا وشنديب وشِلال. تتركز التجمعات السكانية للبشاريين بكثافة في مدينة حلايب وأبورماد وحدربا. وسودانية حلايب أمر موغل في القِدم أغنانا دكتور أبو محمد أبو اّمنة الخوض فيه في مقالاته الأخيرة. أما في العصر الحديث, فقد رسمت السلطات البريطانية هذا المُثلث ضمن الأراضي السودانية عام 1902, لأن سكان الأقليم ينتمون قبلياً إلي السودان, ولأنها أقرب للخرطوم من القاهرة. وكان الشاعر توفيق صالح جبريل مأموراً علي حلايب خلال عهد الإستعمار. شبَّ النزاع حول ملكيتها عام 1992, عندما منح حُكام الخرطوم إمتياز التنقيب عن النفط لشركة كندية في مياه حلايب الإقليمية. رفض النظام المصري التنقيب مما أدي لفوران مُرشد النظام - وفورانه كالأندروس - وأمر بحشد الجيش تجاه حلايب. ولما إحتلها المصريون, قال للحكومة أن جيشه لا يقوي علي قتال الجيش المصري! وما كان جيش عبدالله خليل يملك صورايخ عابرة للقارات, وما كانت ميزانية الدفاع تبلغ النسبة الخرافية الحالية, التي يبدو أنها مخصصة لحفظ الأمن والسلامة الشخصية لأركان النظام. وفي عام 2000, أمر المُحافظون الجُدد, بسحب الجيش من المثلث, عدا وحدة ما زال المصريون يحاصرونها. وعندما وضعت جبهة الشرق مسألة حلايب ضمن أجندة محادثات السلام عام 2006, قال الغطريس مصطفي إسماعيل, إن حلايب شأن قومي ولن يقبل النقاش فيه مع جبهة الشرق, كأن أهل الأقاليم لا يحق لهم طرح مسائل قومية حتي لو تعلقت بالسيادة. كما لمَّح للمفاوضين بمنحهم بعض المناصب في المركز والولايات كي يصمتوا عنها. وتصريح الغطريس مؤخراً بأن حلايب منطقة تكامل جهل منه, لأنه قول ممجوج لم يفلح في إقناع السودانيين. وما كنا ندري أن منطقة التكامل يرُفع فيها العلم المصري وحده ويُعذب فيها مقاومي الإحتلال من البشاريين, ويُجبر الباقين منهم علي حمل بطاقات هوية مصرية. ومن ضمن ما قام به النظام المصري بعد الإحتلال الأخير, هو منع البشاريين من سكان حلايب من عبور خط العرض 22 جنوباً للتواصل مع ذويهم في العمق السوداني, فيما يشبه حصار فلسطينييغزة, لسلخهم عن الإنتماء السوداني. وحتي لو تركنا البعد القومي جانباً وأخذنا الأمر من ناحية قبلية لكان الأمر مختلفا. بمعني أن بشاريي حلايب لو كانوا جعليين كقبيلة البشير, أو شايقية كقبيلة نائبه, لما رضوا الذل لهم وفرض هوية غريبة عليهم. والتنازل عن سيادة حلايب, في الواقع, عطاء من لا يملك لمن لا يستحق وهو أسوأ من وعد بلفور, لأن بلفور ما كان فلسطينيا. والفرق بين حلايب وطابا أن الأولي حُبلي بالثروة المعدنية, وكثافة سكانية من شعب راسخ في تلك البقعة, يعود وجوده فيها إلي ما قبل الميلاد. أما طابا, فهي قطعة صغيرة من الأرض الجرداء القاحلة, خالية من أي موارد إقتصادية عدا بضع فنادق سياحية. وبخلاف ساحل القنال, لا توجد أي تجمعات سكانية مصرية بين البحر والنهر, خلا بعض البدو المتناثرين في الصحراء. إستباحة تراب الوطن وإنتهاك سيادته, بدرجة أقل من الإحتلال, أمر أفلح فيه هذا النظام عكس كل الأنظمة التي سبقته, مما أدي لتلاشي هيبة الدولة. فقد سبق أن نسَّق النظام مع جيش الرب, لدخول الأراضي السودانية لقتال الحركة الشعبية, خلال الحرب. وبما أنه إعتاد علي دخول الأراضي السودانية, فهو حالياً ما زال ينشر الرعب ويعيث فساداً في جنوب دارفور. ودخول القوات التشادية لملاحقة قوات المعارضة الشادية, كان أمر عادياً حتي قبل تدويل المسألة الدارفورية. كذلك توغلت القوات الأثيوبية في يونيو 2008, في منطقة باسندة وحنتوب وقتلت تسع عشر جندياً, بينهم رائد, من معسكر قوات الإحتياطي في جبل حلاوة. رغم ذلك لم يحرك النظام ساكنا حتي علي المستوي الدبلوماسي, عدا بيان شجب من وزارة الدفاع. ثم حدثت فضيحة هجوم حركة العدل والمساواة لقلب العاصمة, رغم أن المحافظين الجدد قد أصبحوا نداً قوياً حتي لدول الإستكبار, حسب تصريح غازي صلاح الدين. نفهم بأن المحافظين الجدد قد حوّلوا وظيفة الجيش إلي قتال مواطنيه جنوباً وغربا, بدلاً عن صد العدوان الخارجي وحماية التراب السوداني. فقبل يومين أعلن نافع علي نافع, في ندوة أم بدة, بإستعداده لتقديم مائة ألف شهيد إن أرادت الحركة الحرب. لذا, فلا نطالبهم بحرب مصر لتوفير موارد الجيش لوظيفته الأساسية وهي حرب مواطنيه. إنما نكتفي بأن ينهجوا منهج مصر لنزاع طابا, أو منهجهم في نزاع أبيي برفع المسألة إلي التحكيم الدولي. هل تم إغلاق ملف حلايب كثمن لصمت مصر عن فتح ملف محاولة إغتيال رئيسها؟ إن كذلك فهو ثمن عظيم لو كانوا يعلمون. ورغم هذا فمازالوا لأسطورة المشروع الحضاري يروِّجون ويقولون ما لا يفعلون. مالكم أيها المُحافظون, مالم كيف تحكمون؟