عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) ليس من خلافٍ حول التكلفة الكبيرة والخسائر البشرية والمادية ، في حالات القتال والحروبات . فإن كتب عليكم القتال وهو كره لكم، يبقى علينا أن نستنزف كل جهد متاح لحل النزاعات، وإطفاء فتيل الحروبات عبر الحوار، وتسوية مسببات النزاع عبر التفاوض، وإفساح المجال للوساطات الصادقة... مع تصاعد مساحات المواجهات العسكرية في اليمن ، تظل "عاصفة الحزم" ، عاصفة مفتوحة لكل الاحتمالات . إن أوضح وجه للقتال والمواجهات العسكرية هناك، هو كون الساحة اليمنية لم تعد ساحة لليمنيين وحدهم ، بل ولا لبقية القوات العربية التي همّها الشأن اليمني، لكن يرى المراقبون أن القتال في اليمن صار جزءاً من المواجهات المعقدة والمتصاعدة في كامل الإقليم. ولعلّالشرق الأوسط برمته عرضة لتحولات كبيرة متوقعة، وليست كل مفاتيحها بيد العرب، أو في حالة اليمن، بيد اليمنيين. . (2) لقد ظل هذا الإقليم منطقة لاهبة منذ بدايات حقبة الحرب الباردة، في أعقاب الحرب الكونية الثانية. لا تغيب عن الذاكرة حرب السويس في خمسينات القرن العشرين ، ولا حرب اليمن التي تورطت فيها مصر أوائل الستينات ، أو حرب يونيو 1967، ثم حرائق المنطقة مع إسرائيل ، وألسنة اللهب تكاد تحرق الشام . في نهايات حقبة الحرب الباردة ، تلتهب العراق بشواظٍ ، نال ممّا تبقى لمجموعة الدول العربية من مساحات لاحتواء خلافاتها داخل حدودها. هكذا ظلت مبارات التغيير بيد الآخرين ، لا بيد العرب. (3) إن اختفاء "الاتحاد السوفيتي" لم يشكل نهاية حقيقية للقوى النشطة خلال حقبة الحرب الباردة. لقد تواصلت لعبة التوازنات، تجتذب في آن روسيا (الخليفة الطبيعي للإتحاد السوفيتي) والولايات المتحدةالأمريكية في آنٍ آخر، والتي ليس من المؤكد أن تكون القطب الأوحد الذي سيرث السيطرة على أحوالالعالم. برغم استيعاب عدد كبير من بلدان شرق أوروبا في منظومة البلدان الأوروبية، وبرغم تداعي بلدان "حلف وارسو"، وزوال ما كان يسمى "الكتلة الشرقية" ، إلا أن روح الاتحاد السوفيتي القديمة التي بقيت حاضرة، وشكلت القطب الموازي خلال الحرب الباردة، ليس عسيراً استحضارها لاستعادة نفوذٍآفل، أو إحياؤها في عالم تتنازعه الموارد المتناقصة، والثروات الطبيعية والماديةالناضبة. صار من الطبيعي أن تتمدّد مساحات التنافس، وتتصاعد الإختلافات لتتحوّل إلى مواجهات عاصفة. إن طبيعة الحرب الباردة لم تغادر العالم كما تصورنا ، بل نراها تتشكل من جديد ، وأن التنافس لاقتسام مناطق النفوذ، آخذ في الاتساع . من تجلياته ، هذه المواجهات المعلنة والخفية ، في أوكرانيا وفي العراق وفي اليمن وفي سوريا ، كأمثلة لا تغيب عن البصر. (4) يظلّ التحدي الماثل سؤالاً يتردّد في أفق الصراعات: هل ثمة فرصة تهتبل لاحتواء مساحات المواجهات والاقتتال عبر جهود محلية ، تتم بأيدي أهل المنطقة واللاعبين الأساسيين في المنطقة، دون الحاجة لتغولات وتدخلات من قوى خارج الإقليم والمنطقة. . ؟ بعيداً عن التقييم الموضوعي لعملية "عاصفة الحزم"، وما يكتنفها من تصاعد يزيد يوما بعد يوم، فإن هذه التطورات تشكل إغراءاً علنياً لقوى أجنبية تقحم عناصرها ، لتعطي هذه النزاعات بعداً أشبه بما شهده العالم من مواجهات بين القوى العالمية، في محاولاتها اقتسام النفوذ خلال حقبة "الحرب الباردة" ، وهي في الحقيقة لم تكن باردة بالكامل ، مما أوردنا من نماذج وقعت في الشرق الأوسط. (5) وددتُ في هذا المقال أن أسلط ضوءاً خافتاً على جوانب ثلاثة لفتت انتباهي. أولهما ما تردد من مزاعم عن مساعدات ترد من إيران إلى اليمن، وللطرف "الحوثي" تحديداً. إن في ذلك، إن أثبتته الأدلة الدامغة، لهو صبّ الزيت على نارٍ تؤجج النزاع، ولا تعمل على إطفائه أو احتوائه. ويروعني أن تتناقل وسائل ووسائط الإعلام، ما جاء على لسان الرئيس الأمريكي "أوباما"، حول ما ألمح إليه من ضرورات تغيير حال "العرب السنة" من الداخل، ويقصد بذلك تحسين البيئة السياسية، عبر إشاعة الممارسات الديمقراطية والحريات واحترام حقوق الإنسان في البلدان التي تتبع المذهب السني. وتجاهل الرئيس الأمريكي فيعبارته، الإشارة إلى المذهب الشيعي المقابل.. صارت مثل تلك التلميحات وتلك المتطلبات، تشكل مكوناً خفياً من سياسة "العصا والجزرة" التي أكثر ما تتبعها القوى العظمى، بغرض تعزيز موجبات الأمن والاستقرار الدوليين، وهما قيمتات تشكلان عصب ميثاق الأممالمتحدة كما هو معلوم. (6) أمر ثاني هو ما رصدته عندنا في السودان، من إعلان الحكومة في الخرطوم نيتها إرسال كتيبة من الجنود السودانيين إلى اليمن ، وأيضاً استقبال أعدادٍ من الجرحى اليمنيين لعلاجهم بالمستشفيات السودانية على نفقة المملكة السعودية. لاتثريب في التعاون الصحي والعلاجي بين الإخوة العرب في منطقة تشهد تصعيدا في المواجهات العسكرية والاقتتال. لكن الذي توقعته أن لا تغيب عن عين "عاصفة الحزم" ما للسودان من "قدرات ناعمة"، نجحت في تسوية النزاعات الناشبة في أرضه، بدبلوماسية التفاوض والحوار أكثر من القدرات العسكرية المحضة. لقد كسب السودان على مدى عقود طويلة، خبرات في احتواء نزاعاته الداخلية، وخبرات أكبر في التفاوض لحل أزماتهالسياسية، وانهاء المواجهات العسكرية التي صاحبت بعضها. لم تفلح بعضها في احتواء أزمة دارفور ولكن نجد اتفاق "نيفاشا" في عام 2005، وقد أفضى إلى حلِّ مشكلة جنوب السودان، والتي استعصت لسنوات بلغت الخمسين وأكثر، يشكل تجربة في فضّ النزاعات، ينبغي النظر إليها في حلّ النزاعات الداخلية المستعرة في بعض البلدان العربية . (7) أمر ثالث من الأهمية بمكان، ويتصل بدور الجامعة العربية. إذ لو تنبهت الجامعة لتجربة السودان، وتدارست أساليب التفاوض الذي حقق للسودان حلاً جذرياً لمشكلة جنوب السودان، لكان من الأنسب ومن المنطقي،إنشاء إدارة خاصة في الأمانة العامة، تعنى بفض النزاعات الداخلية، خاصة وقد كان للجامعة دورها المقدر مع بقية الوسطاء، الذين شكلوا فريقاً مسانداًساعد على التمهيد لاتفاقية السلام في السودان عام 2005. لعلنا نتوقع من الجامعة العربية القيام بدور يتجاوز دور الأممالمتحدة وممثلها النشط في اليمن. تفكر المنظمة الأممية ويتفاعل مجلس أمنها، فترسل ممثلها الخاص وسيطاً ليساعد في حلحلة النزاع في اليمن، فيما لا نجد دوراً ولا مبادرة منجامعتنا العربية . لكأنها استكانت لاختيار ممثل للأمم المتحدة من أصل عربي،يقوم بمهمة الوساطة، إلا أن ذلك لا يعفي أمانة الجامعة العربية من سنة المبادرة، والنزاع الناشب في اليمن، هو عربي- عربي، وإن بقيت أصداؤه الخارجية واضحة ومسموعة. (8) أما السودان فإن له موقعاً مميزاً بين الدول العربية ، لا يشبه موقع أيّطرف عربي آخر. لقد كان للكتيبة السودانية في لبنان، إبان عملها في إطار قوات الردع العربية في السبعينات من القرن الماضي، دوراً وسطياً دون بقية القوات العربية المشاركة، هيأها لتقف في حماية حدود "البيروتين" الغربية والشرقية. إن رمزية قبول السودان وسيطاً بين المتنازعين العرب، قد تجعل من السودان خياراً مناسباً تعتمده الجامعة العربية وسيطاً مقبولا بين المتنازعين في اليمن. إن انحياز السودان لطرف دون آخر في النزاع اليمني الناشب ، يخصم من رصيد السودان الذاخر بوساطاته التاريخية الباذخة ، في النزاعالحدودي بين العراق والكويت عام 1961، وخلال سنوات الحرب الأهلية في لبنان في سنوات السبعينات، وزد عليه دور الخرطوم في استضافة القمة العربية التاريخية عام 1967 ، والتي انتهت بلاءاتها الثلاث المشهورة. وللسودان علاقات تاريخية مع اليمن تشكل قوة ومصداقية لوساطته، إن كان ثمة من يؤازر ذلك الاتجاه، أكثر من إقحام القوات السودانية مباشرة في الاقتتال الدائر في اليمن. . الخرطوم – 20 سبتمبر 2015