فى صيف عام 1989م فى الصف السادس من داخل مدرسة القيادة الشمالية الإبتدائية للبنين فى مدينة شندى العريقة ومع نهاية أخر حصة هرولنا جميعاً دفعة واحدة نحو باب الخروج كمن يطاردهم ثور أسبانى وكدنا أن نطرح (ست محاسن ) أرضاً لتفسح لنا الطريق فما عدنا نحتمل الإنتظار أمام (تَقدُلها) وخطواتها البطيئة لو لا إنها أنقذت نفسها وأعادت إلينا رشدنا بصرخة دوت أرجاء المدرسة ( ياولد! بلى ياخدك وياخد يومك .... شنو العوارا دا طايرين وين أصلو؟) فأكتفينا بالنظر لبعضنا البعض وفى طيات هذه النظرات أشارات نفهمها نحن الخمسة أصدقاء ( جوزيف أنطونى ، جيمس مايكل ريس ، جون إستيفن كيك ، أوبج فيتر أوشام ، وشخصى ) وما أن بارحنا سور المدرسة ببضع خطوات إلا أطلقنا أرجلنا للريح فى سباق مارثونى نحو ضفة نهر النيل لبساتين قرية الشقالوة حيث أشجار النخيل الباسقات التى تداعب الريح (جريدها) فتتمايل يمنة ويسرة وكأنها تحَّى المراكب الشراعية التى تمر جيئة وذهابا فى عرض النهر لم نكن مشدودين كثيراَ بذلك المنظر الخلاب أو بالأصح لم نعير له إهتماماً من الأصل فإن فى ذاكرتنا ماهو أعظم بحكم أحلام ومغامرات الصبية فى ذاك الزمان إنه بداية موسم التمر وبزوغ (الدفيق) وهو الأخضر من البلح الذى يتحول فيما بعد إلى الأصفر ثم البنى ليحصد ويجفف ويباع فى الأسواق . كنا نحب مرحلة (الدفيق) هذه ، أولاً لأن طعمها (سُكْرى) بالإضافة إلى إنها أول مرحلة إنتاج البلح ، وفيما كنا منتشرين عند الشجيرات القصيرة نقطف ماطاب ولذ من (الدفيق) ، فجأة فُزعت على صوت صديقى جوزيف وهو يصرخ مهرولاً بعيداً من مكانى ( سعيد بربور جاء ياشول أ ج.....) وقبل أن يتم الجملة وجده نفسه يركض خلفى هو الآخر ومن خلفه بقية الصبية محاولين اللحاق بى دون جدوى لأن من يسمع إسم (سعيد بربور) من الصبية لا يستكثر من الأسئلة قبل الخروج من دائرة الخطر أى من حدود جنينة (سعيد بربور) صاحب أكبر جنينة فى ذاك المنطقة الواقعة بين جزيرة ساردية وجناين الجيش وأكثرها أكتظاظاَ بأشجار النخيل والبرتقال والمانجو ، وبعد جرى بمسافة ليست بالقصيرة توقفنا جميعاً عندما إلتفتنا ولم نراه يركض خلفنا كعادته وما ذاد إستغرابنا هو تسمره فى مكانه وأخذ يلوح بكلتا يديه وكأنه يريد أن يقول لنا شيئاً مهماً وقبل أن نقترب أكثر أدركنا صوته الأجش ( تعالوا يا أولادى جارين مالكم أنا بس داير أقول ليكم ماتّشْتِروا الدفيق بالحجار ، لو دايرين تأكلوا بلح أطلعوا فوق وأكلوا النجيض كدا ماحا يكون عندى معاكم مشكلة ) وللمرة الثانية نظرنا لبعضنا البعض وعلى وجوهنا بسمة متوارية دلالة على إقتناعنا بكلام الرجل فلقد وجدنا فيه مسٌ من المنطق أرتاحت لها بالنا وإتفقنا أن نعاود الكر فى ظهيرة اليوم التالى لنستمتع بهذه الإمتيازات والتساريح الجديدة ....... يتبع عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.