بسم الله الرحمن الرحيم عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. صدرت للشاعر والأديب والضابط السابق بالقوات المسلحة " عوض مالك " رحمه الله ، روايةً بعنوان: " عدلان الأصم "، صدرت الطبعة الأولى منها في عام 2005م عن دار " نهر المعرفة " للنشر والتوزيع بالقاهرة ، أي قبيل انتقال المؤلف نفسه إلى الرفيق الأعلى بمدة قصيرة ، إذ أنه ما عتّم أن لقي وجه ربه في العام التالي مباشرة 2006م. وُلد الأديب الراحل اللواء عوض محمد مالك في عام 1938م ، بقرية " قلعة مالك " التي تقع غرب محطة " الرويان " إلى الشمال من بلدة " الجيلي " شمال الخرطوم ، وينتمي إلى أسرة تعود بجذورها إلى منطقة " تنقاسي السوق " المعروفة بديار الشايقية بشمال السودان. عمل عوض مالك ضابطاً بالجيش السوداني ، وتدرج فيه في مختلف الرتب ، حتى تقاعد عن الخدمة العسكرية في ثمانينيات القرن الماضي. اشتهر اللواء " عوض مالك " كأديب من ضمن ما يمكن أن نسميهم بجيل الوسط بين أدباء القوات المسلحة الذين نبغ من بين ضباطها ومنسوبيها أدباء وشعراء كثيرون عبر مختلف الحقب ، من لدن يوسف مصطفى التني ، والصاغ محمود أبو بكر ، والعميد عمر الحاج موسى ، واللواء عوض أحمد خليفة ، والشاعر الغنائي الطاهر إبراهيم ، واللواء جعفر فضل المولى ، واللواء أبو قرون عبد الله ، إلى عهد اللواء محمود قلندر ، وصديقنا الجنرال أحمد طه ، والصحافي الأديب محجوب فضل بدري ، واللواء يونس محمود ، والعميد الصوارمي خالد وغيرهم من أرباب الطبنجة والكيبورد المعاصرين ، حتى لا نقول السيف والقلم العتيقين. على أن " عوض مالك " قد اشتهر ناظماً وشاعراً أكثر من كونه سارداً وقاصاً أو روائيا. يدلك على ذلك أن سيرته الذاتية المقتضبة المنشورة في آخر صفحات الرواية التي نحن بصددها ، تذكر عناوين حوالي تسعة دواوين او مجموعات شعرية لهذا المبدع ، منها ما هو مطبوع ومنشور ، ومنها الذي ما يزال مخطوطاً ينتظر الطبع والنشر. ولعوض مالك غير رواية " عدلان الأصم " رواية أخرى بعنوان " ليالي واو " صدرت بعد وفاته عن هيئة الخرطوم للصحافة والنشر. أما رواية " عدلان الأصم " ، فهي عبارة عن عمل سردي إبداعي ، يبدو وكأنه مزيج مختلط بين السيرة الغيرية والسرد المتخيَّل ، بل يكاد يكون أقرب إلى الرواية السيرية المحضة التي تعاورتها ريشة الروائي الفنان ، فأضفت عليها من التكنيك الروائي ، ومن دفقات الخيال ما جعلها تبدو مجرد قصة خيالية ممتعة ومشوقة. والحبكة الأساسية لرواية " عدلان الأصم " ، تتعلق بقصة شخصية امدرمانية نمطية وشهيرة ، وذات مكانة مرموقة ومؤثرة في مجتمع العاصمة الوطنية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي ، هي شخصية " عدلان الأصم " نفسه الذي نشأ طفلاً يتيماً فقيرا ، ربّاه أخواله ، ولكنه تغلب على ظروف يتمه وفقره ، فشب عصاميا كادحاً ، ضارباً في فجاج الأرض مسافراً بغرض الكسب والتجارة ، فنجح نجاحاً منقطع النظير في أعماله وتجارته ، وصار من أصحاب الشأن والمشورة في مجتمع أم درمان ، بفضل ما كان يتمتع به من حسن السيرة ، والأخلاق الفاضلة ، وحب الخير للناس ، ومساعدة المحتاجين ، وإغاثة الملهوفين ، كما أنه كان شخصاً اجتماعيا محباً للناس على الرغم من انه عاش طوال حياته عزباً لم يتزوج ، لأن قلبه كان ينطوي على جرح عميق قديم تسبب فيه حب عارم كان يكنه لفتاة مسيحية من الأقباط او الشوام. وقد كان حباً محكوماً عليه بالفشل بطبيعة الحال ، نظراً للعقبات والفوارق الدينية والاجتماعية التي كان يتعذر اجتيازها والتغلب عليها خصوصاً في ذلك الزمان. ومن خلال رسم المؤلف لشخصية عدلان الأصم ، يتبين للقارئ أنها شخصية مرحة ومنشرحة ومحبة للحياة ، واجتماعية ومنفتحة ، ومسكونة بحب الفن والطرب والسماع لمختلف ضروب الأغاني العاطفية منها ( الحقيبة ) والدينية ( المديح النبوي ) التي كانت سائدة في عصره بأم درمان ، وذلك في غير ما إسراف ولا غلو.. كما انه كان يمتاز على الرغم من أنه عاش طول حياته عزباً لم يتزوج كما أسلفنا ، بالعفة والتجانف عن الرذائل والموبقات ، يعصمه في ذلك تدين فطري ، ومروءة راكزة في طبعه. وقد عاش عدلان الأصم حياة مديدة في ام درمان ، يشعّ على الجميع من خصائص شخصيته المحبوبة والجذابة والمؤثرة ، حتى لقي وجه ربه راضياً مرضيا ، بل شهيدا ، إذ ان شاباً طائشاً أرعن قد صدمه بسيارته بينما كان يسير في الشارع ، فأرداه صريعا. والمفارقة هي أنّ والد ذلك الشاب المستهتر نفسه ، كان عدلان الأصم قد أحسن إليه وساعده من ضمن أناس كثيرين ساعدهم ووقف إلى جانبهم في حياته حتى استووا على أقدامهم ، ولكنه تنكر لعدلان ولساكني الحي ، وارتحل عنهم بعيداً ، أنفة وتكبّرا. ولكن هذه السيرة لعدلان الأصم بتفاصيلها الدقيقة ، لا تتكشف كلها أمام عيني القارئ دفعة واحدة ، وإنما انتهج المؤلف في رسمها تقنية تقوم على إيراد فصول متلاحقة ، أشبه ما تكون بسلسلة متتابعة من التحقيقات الصحفية ، للتنقيب في سيرة عدلان الأصم ، الذي تعرّف عليه الراوي ذاته وهو في أخريات حياته ، وأُعجب به إعجاباً عظيما ، وانبهر بشخصيته ، قبل ان ينتقل عدلان إلى الرفيق الأعلى إثر ذلك الحادث المأساوي. ومن ثم صمّم الراوي الذي يوشك أن يكون هو المؤلف عوض مالك نفسه ، الذي نعتقد ان هنالك من ملامح سيرته الذاتية الخاصة به ، وبعض ملامح السيرة الغيرية التي نحلها لبطل روايته عدلان الأصم ، ما يحملنا على الاعتقاد في ترجيح هذه الفرضية بدرجة كبيرة. تتكشف سيرة عدلان الأصم وتفاصيل ملامح شخصيته المؤثرة التي يجمل سر جاذبيتها وتأثيرها ذاك في عينيه البراقتين ذواتي السحر الآسر ، كما يردد الراوي في أكثر من موضع من الرواية كلازمة بيانية مقصودة لدلالتها على تأكيد هذا الملمح من ملامح هذه الشخصية ، تتكشف من خلال مشاهدة الراوي نفسه ، ومعايشته له خلال الفترة القصيرة التي حظي فيها بمقابلته كفاحاً ، والتعرف عليه عن كثب ، ثم من خلال روايات أصدقاء عدلان الأصم المقربين ، والأشخاص الذين عرفوه بصورة لصيقة ، والذين استوضحهم الراوي واحداً واحداً بأسلوب المقابلات والتحقيقات الصحفية كما أسلفنا ، إلى ان رحلوا عن الدنيا الواحد تلو الآخر في تتابع عجيب ، ليس اعجب منه إلا وفاة المؤلف نفسه ، الذي نحسب أنه لم يعش طويلاً بعد نشر هذه الرواية ، وكأنه كان في سباق مع الزمن لكي يدونها ، ويرسم شخوصها واحداثها بهذا الإحساس العالي ، وبهذه الشفافية الروحانية المذهلة ، حتى تبقى زاداً روحيا باذخاً ، ومأثرة أدبية خالدة للأجيال عن المؤلف/الراوي عوض ملك ، وعن البطل المروي عنه ، عدلان الأصم كليهما معا. ولم ينس المؤلف في غضون رسمه لسيرة عدلان الأصم ، أن يستدعي ومضات مشرقة من التاريخ الاجتماعي والثقافي والاقتصادي والفني لمدينة أم درمان خلال النصف الأول من القرن العشرين ، والذي اقتضته شخصية البطل الأمدرمانية النموذجية ، مما يجعل هذه الرواية من ضمن الروايات والأعمال الإبداعية ، المعبرة بصدق عن ثقافة أم درمان البقعة ، وأجوائها المميزة على مر الأزمان. . ومن هذا المنطلق ، فإنّ رواية عدلان الأصم هي بكل تأكيد ، قمينة بان تكون موضع العناية والتقدير من قبل أبناء أم درمان ، وسائر المهتمين بتاريخها الاجتماعي والثقافي والفني وتوثيقه. تبدأ الرواية بمشهد وفاة البطل عدلان الأصم ، وتشييع جثمانه المهيب بمقابر البكري بأم درمان ، وإيداعه الثرى في قبر يرقد تحت شجرة هجليج هناك ، وهو الذي لم يكد يفته تشييع أي جنازة كانت في ام درمان تحت كل الظروف. ومن ثم تتكشف وقائع الرواية وتنداح رويداً رويدا على طريقة الاسترجاع السينمائي ، أو ما يسمى بالفلاش باك. ولكن ، من عسى أن يكون عدلان الأصم هذا أو من يشبهه في الحقيقة من أهل أم درمان ، إذا جاز لنا أن نستبصر في هذا العمل معالجة فنية روائية لسيرة إنسان بعينه ، كان يعيش في هذه المدينة ، يحمل صفات البطل عدلان الأصم ، وتفاصيل سيرته الذاتية أو قريباً منها ؟. إن الاسم " عدلان الأصم " هو بالطبع ، اسم من نسج خيال الكاتب فحسب ، وهو لا يعدو أن يكون تجسيداً رمزياً أو مجازيا لجماع صفات وخصائص شخصية بطل الرواية المتمثلة بصفة خاصة في العدل والتصميم ، أو الصرامة والاستقامة والبعد عن كل ما يزري بالمروءة في تقديرنا. لقد سمعنا بشخصية شبه أسطورية في ام درمان ، ربما تتجسد فيها بعض ملامح عدلان الأصم هذا وسيرته ، وخصوصاً الجزئية المتعلقة منها بالحرص على شهود الجنائز وتشييعها ومواساة الناس في المآتم ، ولكن ليس بأيدينا في الوقت الراهن ما يؤهلنا تماماً للحكم بان المقصود بعدلان الأصم ربما يكون هو تلك الشخصية نفسها.. ويبقى الأمر متروكاً للأمدرمانيين الأقحاح للبت فيه ، مثل الأديب اللواء الهادي بشرى الذي سطر إلى جانب كل من البروفيسور عون الشريف قاسم رحمه الله ، والفريق محمد الحسن محمد مالك أطال الله بقاءه وهو شقيق المؤلف ، تقريظاً للمؤلف والرواية نُشر على غلافها الخلفي. هذا ما عنَّ لنا تسطيره حول هذه الرواية الرائعة في الوقت الراهن ، وربما سنحت لنا الفرصة مرة أخرى للتعقيب والتعليق على بعض التفاصيل الفنية لبنية السرد ومحتواه لاحقاً بإذن الله.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.