السلطات السعودية تستدعي قائد الدعم السريع    راصد الزلازل الهولندي يحذر مجدداً: زلزال قوي بين 8 و10 مايو    (تاركو) تعلن استعدادها لخدمات المناولة الأرضية بمطار دنقلا والمشاركة في برنامج الإغاثة الإنسانية للبلاد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الأحد    "الآلاف يفرون من السودان يومياً".. الأمم المتحدة تؤكد    انتفاضة الجامعات الأمريكية .. انتصار للإنسان أم معاداة للسامية؟    بوتين يحضر قداس عيد القيامة بموسكو    أول اعتراف إسرائيلي بشن "هجوم أصفهان"    وفاة بايدن وحرب نووية.. ما صحة تنبؤات منسوبة لمسلسل سيمبسون؟    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    وداعاً «مهندس الكلمة»    النائب الأول لرئيس الاتحاد ورئيس لجنة المنتخبات يدلي بالمثيرأسامة عطا المنان: سنكون على قدر التحديات التي تنتظر جميع المنتخبات    السعودية أكثر الدول حرصا على استقرار السودان    الفاشر.. هل تعبد الطريق الى جدة؟!!    ريال مدريد يسحق قادش.. وينتظر تعثر برشلونة    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    غوارديولا يكشف عن "مرشحه" للفوز ببطولة أوروبا 2024    ريال مدريد ثالثا في تصنيف يويفا.. وبرشلونة خارج ال10 الأوائل    تمندل المليشيا بطلبة العلم    الإتحاد السوداني لكرة القدم يشاطر رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الأحزان برحيل نجله محمد    ((كل تأخيرة فيها خير))    الربيع الامريكى .. الشعب العربى وين؟    وصف ب"الخطير"..معارضة في السودان للقرار المثير    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    قائد السلام    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصطفي يا مصطفي : أنا بحبك يا مصطفي .. بقلم: وجدي كامل
نشر في سودانيل يوم 01 - 02 - 2016

حثني عدد من الأصدقاء المشتركين ، بل ألحوا علي أن أسجل شهادة للتاريخ عن الراحل الصديق مصطفي سيد احمد المقبول وهاذا انا أفعل بالقدر الذي ستساعدني فيه الذاكرة عل في ذلك تتجلي ،و تكون فائدة لمن يأتي بعدنا ويعمل في البحث عن مصطفي بنحو علمي مدروس.
رسّام ، وشاعر ، وصنائعي ، ومَثَال.
سأله مرة أحد الأصدقاء وهو يزوره بمنزله بإمتداد الدرجة الثالثة بعد أن لفت نظره تبعثر بعض الاَلات الموسيقية وهي عارية من الأوتار مثل الكمنجات وغيرهبغرفة الإستقبال:
ديل شنو يا مصطفي؟
ضحك مصطفي وأجابه بابتسامة آسرة لمعت فيها عيناه الذكيتان :
يازول دي الحاجات القاعد آكل منها عيشي.
بعدها فهم صديقنا أن بعض العازفين والموسيقيين من ملاك الآلات الموسيقيةيأتون لمصطفي ويقصدونه بآلاتهم بغية إصلاحها إذا ما أصابها ضرار بالكسر او العطل فيحسن مصطفي ذلك العمل الدقيق بصبر وتؤدة ومحبة فائقة.
كنت أستمعه إليه منذ نهاية السبعينيات وكذلك بموسكو أيام الدراسة الجامعية وكم تعمقنا في الإستماع له كصوت مختلف وخاصة عندما غني : لسه بيناتنا المسافة واللهفة والخوف والشجون.
1987 كنت بمباني تلفزيون السودان وقد عدت في إجازتي الشتوية من بنغازي،جلست أتبادل الحديث والونسة مع صديقي المخرج التلفزيوني عوض محمد علي. فجاة بدأ عوض في الثناء عليه عندما سألته عن الجديد في ساحة الغناء ووصفه بانه صاحب وصمة قوية قادمة.
لا أذكر تماما كيف تم الوصول لبيت مصطفي- ولكني وصلت ومعي صديق الطفولة وجاري د. عاطف كروم ذات نهار.
وجدناه يسكن في بيت او نصف بيت من الطوب الاحمر يفتح علي شارع عريض.
يستقبلك عادة بجلابية بيضاء وبشكير عادة ما كان يرميه علي كتفه وابتسامةترحيب عريضة تتقدمه وتظهر من بينها أسنانه .
تدخل ثم تأخذ يسارك حيث غرفة علي اليمين نجلس عليها وتفتح في فراندة تفتح عليها من الجهة الاخري غرفة خاصة ببثينة وسامر والطفل سيد احمد الذي كان ما يزال يحبو في شتاء 1987.
آلات موسيقية مبعثرة ومسجل كاسيت دايما ما يبرك بتسجيلات حية منه لآخر أعماله.
كانت نهارية إستثنائية تناقشنا فيها عن أحوال الغناء وإحتياجه لفتوحات جديدة بمجالي الكلمو والألحان .
أسمعنا فيها مصطفي وسجل لنا عددا من الأغنيات في ذلك النهار بجهاز التسجيل الضخم نسبيا والذي كان دائما ما يقبع أمامه بالصالة.
لفتت نظري أغنية : هذه الارضُ تغطت بالتعب— شعرت بانها تجربة جريئة وسألته كيف تمكن من تلحين ذلك النص الصعب؟ اجاب بأنه راهن صاحبه الشاعر شمو علي أن القصيدة بالإمكان ان تلحن في إستبعاد الشاعر لذلك.
سبعة أشهر وأعود لأتزوج ونزورهم ومعي زوجتي تيسير محمد عثمان هو وبثينة بمنزلهم في ترحاب وسعادة كانت تلف أجواء الجلسة.
في خلال ثلاثة اعوام قضيتها بجامعة قاريونس ببنغازي بليبيا كانت تأتيني أخبار مصطفي وكنت ألاحظ إزدياد شعبيته وسط الشباب بنحو فائق ومتعاظم عندما تمكن من أن يوحد مشاعرهم حول أغنيته المتعددة الجاذبيات.
أمتع مراحل العلاقة كانت بموسكو حيث كنت أعمل بالتحضير بصفة طالب دكتوراة زائر في العامين الاولين 1990- 1992.
جاء مصطفي إلي هناك بعد ترشيح عدد من الاصحاب لموسكو كمكان مناسب ودقيق الخدمات الطبية في تخصص الكلي.
معاوية خالد ومجموعة من الطلاب والطالبات علي رأسهم الطالبة جميلة كانوا حول مصطفي .
الفاتح حسين كان هناك وعوض كوبر وأسماء يعرفها وتعرفه من حقل الفنون.
في ذلك الصيف حضر بشري الفاضل من السودان وأسامه الخواض من بلغاريا وجلسنا مع مصطفي جلسة نادرة كان فيها حفيا ببشري وأسامة وأظنه كان قد لحن قبلها (حلوة عينيك زي صحابي ) لبشري الفاضل واذكر في تلك الايام انه كان شديد الاهتمام بموت عبد الرحيم ابوذكري الذي كان موتا كارثيا.
في تلك الايام قام بتلحين الرحيل في الليل.
دعوته بعد نجاح العملية التي تابعناها يوما بيوم بموسكو وبعد ان توفرت كلية لم يكن يتوقعها لإيطالية توفيت لتوها في حادث حركة- دعوته لزيارتي بليبيا ببنغازي لإقامة بعض الحفلات. كان أمامي بباب الشقة بعد اسابيع قليلة وهو يبتسم . قال لي الجماعة تحت العمارة وكان يقصد العازفين.
صادف نزوله تواجد أبي كامل صالح عبد السيد ( عليه الرحمة في زيارة ) معي بالسكن.
نزل معه بالصالون وكنت احاول في اليومين الأوليين التقريب بينهما.
حضرت ذات يوم من عملي ومن الباب للصالون لتبادل الونسة معهما . نظر لي مصطفي مليا وقال لي يحثني بان ادخل للراحة:
يا زول امشي جوه إرتاح ، أنا وعم كامل ده بقينا أصحاب.
اكثر الأصحاب ببنغازي كان تفاجوا بزيارة مصطفي هو صديقنا الباشمهندس عوض الفاضل . فقبل الزيارة ولمعرفته بعلاقتي بمصطفي كان يأتي ويسألني عن أخباره وصحته .
في ذات يوم وقبل حضور مصطفي كنا نتحدث وحدث ان نطقت بإسم أحد الأشخاص واسمه مصطفي . قلت مصطفي أمبارح قال لي .... ،
فتح صديقنا الباشمهندس عوض الفاضل والذي كان مغرما غراما إستثنائيا بمصطفي سيد احمد وفتح عينيه واسعتين من الدهشة بسرعة قياسية ومقاطعا:
مصطفي ؟ مصطفي سيد احمد؟
بعدها بأيام كان يجلس أمامه وهو أحد كبار معجبيه لا تسعه الفرحة وهو ينظر ويتكلم معه ويناقشه ومصطفي يرد له بمتعة ومحبة. اما صديقنا بكري جابر الأستاذ وقتها بثانويات بنغازي فآثر مناقشته في غالب المرات حسب ما أذكر.
طلاب وطالبات جامعة قاريونس من السودانيين والسودانيات حيث كنت أعمل بالتدريس بكلية الآداب - قسم الاعلام تبنوا الزيارة ونظموا حفلا لا مثيل له بميدان كرة السلة الرئيسي ببنغازي حيث غني مصطفي كما لم يغن من قبل.
بعد أيام من مغادرة مصطفي لنا يحضر صديقنا الفنان الموسيقار محمد الأمينويقيم معنا بالشقة لفترة جاوزت السبعة اشهر.
قلت له يا ليتك بكرت يا محمد وألتقيت مصطفي وتعرفت عليه عن قرب.
كنت قد سألته ذات يوم : هل إستمع لمصطفي جيدا ؟ وما رأيه فيه؟
قال لي بدبلوماسية أفهمها عنده منذ بداية سنوات تعارفنا باواخر السبعينيات :
كويس – و أكمل أنه معجب بالسمحة قالوا مرحلة والتي إستمع لها ذات رحلةجمعته بمصطفي بالسودان.
في اليوم الثاني لوصوله وبعد ان أخذ قسطا من الراحة اقترحت عليه الذهاب للتنزه بوسط بنغازي وكنت أزمع ايجار تاكسي لذلك الغرض خشية تأثير المشي عليه بعد العملية فأعترض وطلب ان نمشي علي أقدامنا وبالفعل خرجنا من منطقة السبخة الي التجمع الأشهر للسودانين آنداك وكان يسمي ب : سوق العرب.
سوق العرب كان عبارة عن محلات ودكاكين أسسها السودانيين بمساحة صخمة وسط بنغازي وكنت تجد فيه انواع مختلفة من البضائع السودانية وغيرها . سوق مكتظ بالمهاجرين القادمين او الهاربين من جحيم الحياة بالسودان وجاء معظمهم من الغرب او من مصر.
ما ان دخلنا مساحة السوق حتي بدأ وكأن البعض ينتبه الي الرجل و يقترب او يقاطع سيرنا حتي يتأكد من أن الذي أمامهم هو مصطفي .
تجمعوا حوله ووقف مصطفي يتبادل الأحاديث والونسة معهم لوقت طويل وكأنه رسول محبة بينهم.
في تلك الايام كانت اشرطة الكاسيت علي أوجها تاتي بتسجيلات مصطفي وتعبر الحدود الي ليبيا وكانت أغلب محلات الكاسيت تركز في بثها علي أغنيات مصطفي وفجأة تحول المكان الي عدد من الحفلات الغنايية لمصطفي عندما بدا جميع أصحاب المحلات تشغيل أغانيه .
تسللنا بصعوبة وذهبنا عبر شارع ضيق طويل الي شارع جمال عبد الناصر ومصطفي يرتدي بذلة سوداء كاملة وحذاءا أسودا لامعا بدا جديدا نتحدث ونتناقش حول تجربة ليبيا.
الكتاب الاخضر الذي كانت صوره ومقتطفاته المنشورة والمعلقة بالجدران تلفت انتباهه و هو يبتسم في التفاتاته.
دعوته بعدها لمرافقتي للجامعة. هنالك بالساحة التي أمام المسرح والمكتبة التقي بجمع من الطلاب والطالبات السودانيات الذين كانوا يتحدثون له وبعضهم يكتفي بالنظر وكأنه قديس خاص او ضيف قدم لتوه من كوكب اخر.
التشكيلي الراحل صديقنا قاسم عبد القادر والذي عمل لفترو بالجامعة كان عالي الإنشراح والنشاط والإحتفاء بتلك الزيارة .
بعد جلوسنا لمدة بمكتبي خرج به وعرفه علي المكتبة وبقية محتويات الجامعة والتي بدت وقتها كأنها جامعة من جامعات أوروبا نظرا للإهتمام الخاص الذي كانت تحظي به من القيادة الليبية آنذاك وكون أن معمر القذافي كان يعتز بها كخريج لكلية التاريخ فيما بعد منها.
علاقة كان محورها التفكير والنقاش والحوارات التي لا تنتهي أبدا حول الغناء والشعر والثقافة والسينما هي التي جمعت بيننا فكنا لا نمل عذابات تلك الأنشطة في اي مكان نلتقي فيه.
في الدوحة عام 93 حيث جئتها زائرا كنت أحضر يسكنه الاول والثاني في الثامنة صباحا وأخرج في الثامنة مساء. يتولي القائمون علي امر البيت وعلي راسهم عبد الجليل كافة المستلزمات بل ونذهب أحيانا لمطعم ابو الخير حيث الفسيخ وجبة مصطفي المفضلة مع الشطة الخضراء .
كان البيت يملأ ويفرغ عبد الجليل عبد الحليم وبدر الدين الأمير وعبد المنعم الفكي من كبار الاصدقاء لمصطفي وقتها لا يردون له طلبا.
مصطفي كان يحكي بحب غير طبيعي عن حميد وياتي بأخباره واخبار يحي فضل الله من القاهرة وقاسم من السودان .
أسعد لحظاته كانت عندما تأتيه ويحدثك بأن حميد او يحي أو قاسم إتصلوااليوم.
بيت العزابة الذي كان يسكنه تعثر فيه أحيانا وتجد من ليس له علاقة ومعرفة شخصية به وفيهم من يجلس للتعرف اليه . فجأة ياتي بدرالدين الامير ويذهبا معا للغسيل .
بدأت أُلاخط أن ساعد مصطفي بدا أشد سوادا في مناطق عديدة بسبب حقنة الغسيل.
كنا نقترح عليه أن يرتاح بعد المجي من الغسيل ولكنه كان لا يسمع كلام أحد . ربما يستلقي قليلا ثم ما يلبس ان يمسك بالعود. تقاطعه :
يا مصطفي ريح يا أخي.. فيرد لك بإبتسامة وهو ممسكا بالعود - يا أخي أنا ميت ميت.
بموسكو أبلغت ذات مساء بأن مصطفي قد تم إستدعاؤه للمستشفي الخاص بمعهد الكلي. هذا الإستدعاء عني لي أنهم بصدد إجراء العملية-- عملية نقل الكلي. تأكدت بعد ذهابي من معاوية خالد من الأمر وان إيطالية قد توفيت فجاة في حادث حركة وان هنالك تطابقا بين العينات ونتائج التحاليل بينها وبين مصطفي.
ذهبت الي المستشفي الذي بضواحي موسكو وهناك وجدت مصطفي يستلقي علي السرير الابيض بعنبر واسع جدا لا يشاركه فيه سوي ضيوفه من طلاب وطالبات الجالية السودانية بموسكو .
كان هناك بشري الفاضل ولكن وجود البروفيسور بدرالدين خليل احمد - استاذ الجيولوجيا وقتها بجامعة الخرطوم أضفي علي الجو طابعا فكها. بدر الدين وينطقه المتقطع أو تأتئته كان يحاول التخفيف علي مصطفي قبل العملية بالحكاوي المشوقة . سرد بدر الدين تجربة غريبة له مع مرض الكلي.
قال أنه كان يعاني منه ولزم ذات مرة سرير مستشفي بن سينا بسببه. وحدث شي عجيب أثناء ذلك. حكي انه كان يأخذ حقنا في مواعيد محددة ، وذات عصرية وهو متعمق في نومه إذ بمواعيد الحقنة تحين وتاتي الممرضة التي لاحظت انه نايم فرفضت إيقاظه بشكل كامل . يحكي بدر الدين ان الممرضة أمسكت بذراعه وحقنته وهو بين اليقظة والنوم. حدث بعدها بثواني الأمر العجيب حسب بدر الدين وهو ان كليته قد بدأت في العمل وبدأ كما قال أنه كما يسمعها تعمل : فت فت فت فت.
بعدها وقف علي رجليه ولبس ملابسه وخرج بكامل إرادته من المستشفي الذي لم يعد له الي الان.
ضحكنا وكان مصطفي أكثرنا إستثارة بالأمر.
قبل العملية كان قد طلب مني زيارة معهد السينما وإمكانية مشاهدة فيلمي : اطفال الشمس او الشماسة.
في الزيارة عبر عن دهشته من الجو الدراسي بالمعهد ودخلنا قاعة ضخمة وشاهدنا الفيلم.
ظل حزينا وصامتا الي ان وصلنا الداخلية حيث مكثنا لوقت وقضينا ليلة ممتعة.
مصطفي كانت له صفات وخصائص شتي . من الملاحظ منها كان قدرته علي التنبوء -- او ما يمكن تسميته بنشاط الحاسة السادسة- تأتيه او تجلس اليه وفجاة يبدو لك انه ساهم وعيناه مغروستين في نقطة ما من فضاء المكان فتساله- يجيبك بعد حين بحزن ان هنالك شخص بود سلفاب قد توفي للحين. بعد يوم تتاكد المعلومة وهي أن فلان او فلانة بود سلفاب توفي في ذات الوكت الذي شعر به مصطفي ويخاطبك: شفت ؟ ما قلت ليك؟ .
نشاط هذه الحاسة ربما كان يقوده أحيانا الي مد حبل الظنون.
حضرت له بسكنه بالدوحة ذات يوم ووجدته حزينا. عرفت عن إتصال هاتفي جري قبل حضوري مع الراحلة ليلي المغربي وكانت تتكلم معه من عاصمة أوروبية وتحثه بعاطفة عالية علي العودة والرجوع . فيما بعد قال لي انها (شرك ) وأن ناس الحكومة حرضوها علي ذلك وهو لن يكون طعما لها.
غادرنا من بنغازي إلي طرابلس ثم ما لبس ان عاد سريعا وهو يقول بان ثمة محاولة لترحيله جرت هناك بعد مطاردة من مجهولين.
كان يتلقي إتصالات من وردي وعركي ومغنين أصدقاء ولكن ثمة مكالمات تمت بتدخل او توسط بينه وبين صلاح ادريس لعب اخونا مدني النخلي الذي كان من الزائريين الثابتين لمصطفي دورا فيها نظرا لعلاقة القرابة القوية التي كانت تربطه بصلاح ادريس..
زرته ومعي تيسير زوجتي بعد نجاح العملية بموسكو وعودته إلي القاهرة وكان يسكن وقتها بعين شمس فلاحظت تيسير العدد الكبير من الضيوف والناس والتأثير الصحي السالب الذي يمكن ان يلحق بمصطفي الذي كان عليه الإستشفاء والتزام التعليمات الخاصة بالتغذية. وعبرت عن قلق ما يساورها.
كان يحب هاشم كرار حبا خاصا وهاشم بحكم ظروف عمله لم يكن منتظم الزيارات ولكن حين يأتي يصبح للمجلس طعم وتنتصب له قامة خاصة اذا ما تغني مصطفي وأطرب.
هاشم أجري لصالح صحيفة الوطن القطرية اهم حوار صحفي في تقديري مع مصطفي لا يزال يملأ الأسافير.
عبد الرحمن نجدي وزوجته عواطف كانا من المحببين لمصطفي ولم يقصرا في تنظيم الجلسات بمنزلهم كلما حضر زائر مهم للدوحة.
أذكر حضور تشكيلية كويتية تم تنظيم حفل استقبال لها بواسطة بدرالدين الأمير وكان مصطفي بالجلابية والعمة وغني فيه غناءا عذبا . نجدي حقق تسجيلا خالدا بكاميرته في ذلك اليوم وصورنا معا الصورة موضوع البوست.
صديقنا الشاعر النور عثمان أبكر عليه الرحمة كان رجلا خاص المزاج ولا ينفتح علي الآخر الا بندرة وتحفظ شديدين إلي أن يأمنه ويكتشف فيه ما يروقه ظل يحتفظ بعلاقة ومحبة بمصطفي طيلة فترة وجوده بالدوحة.
ناس كثر كان يضج بهم سكن مصطفي بالدوحة وأصدقاء نوعيين له . فبالإضافة الي ما ذكرتهم من مقربين يشاطرونه السكن او شاطرونه السكن امثال عبد الجليل عبد الحليم وبدر الدين الامير وعبد المنعم الفكي وعبد الرحمن بركات الذي يكني نفسه بابي ساندرا والذي قاسمه السكن لفترة.
كنت تري مسعود محمد علي استاذ اللغة الانجليزية بحامعة قطر وهو رجل لعب ايضا دورا هاما ومهما ومعه أسرته في متابعة حالة مصطفي وموازرته بمرصه ويعيش حاليا بالمانيا.
مسعود كان كالمتصوف في غناء مصطفي وتنتابه حالة من الإنصراف الروحي عندما يسمعه وأظنه كان اكثر الناس إعتقادا وإحساسا برحيل مصطفي، تقوم النقاشات ساخنة وحارة بيننا ويشارك مصطفي بكل الهمة والعزيمة .
عصام ابراهيم وصلاح عبد الله كانا من المزاوزين المتكررين أيضا وحماس ودهشة تلاحظه في صلاح العازف والفنان عندما يستمع لمصطفي .
لا أنسي استاذة كويتية إسمها آمنة راشد حمدان كانت تقيم بالدوحة ولها علاقة محبة وإعجاب غير عاديين بمصطفي وغنائه.
المسرحي محمد السني دفع الله كان رقما خاصا أيضا في العلاقة بمصطفي والسني كان حين يسمع مصطفي تشعر وكأنه كان يستمع له بمسامات روحه وتركيز عال. السني كان دائم الزيارة.
جعفر عباس من الشخصيات ذات العلاقة الخاصة كانت بمصطفي لا ينقطع عن زيارته ومتابعة حالته الصحية مع انجذاب كبير تجده لديه تجاه اعمال مصطفي وافكاره الغنائية
أشبه بالاستغراق لؤلؤ الانجذاب الصوفي تقريبا يا صلاح . وهي كذلك درجة من درجات التامل المسنود بدفقة عالية من المتعة.
مصطفي كان هادئ الحركة حين يمسك بالعود ويغني ولكنك اذا تسللت بالنظر الي عينيه فسوف تكتشف نشاطا مربكا لعيون طفولية تتحرك واحيانا تثبت في نقطة ما وتتحاور معها وخاصة إذا ما غني لك : في الأسي ضاعت سنيني.
مكثت بالدوحة ستة أشهر / من الثلث الاخير لعام 1993 إلي الشهر الثاني من 1994. كانت بعض ما سردت هي حصيلة ذكرياتي لتلك الأيام . ولكن فإن اهم تعاون كان بيننا تمثل في مراجعات مصطفي لمجموعتي الشعرية : تمارين فيما يخص العدو علي الماء التي صدرت عام 96 من القاهرة وتضمنت مقدمتها إشارة إلي مصطفي ودوره في مراجعة قصائد تلك المجموعة.
ودعت مصطفي مغادرا إلي القاهرة وبعدها ليبيا التي عدت للعمل بالتدريس بجامعة قاريونس بها مرة أخري وكان وداعا واثقا من لقيا ستتجدد.
من هنالك كنت أتابع أخباره وأستعين بمعلومات الأصدقاء للتعرف عليها إن وقعت الصدمة.
كنت أشاهد محطة mbc وتحديدا أتابع الاخبار يوم 17/1/1996 وفجاة اذاعت المذيعة ضمن الأخبار الرئيسية خيرا يقول: غيب الموت اليوم الفنان السوداني مصطفي سيد احمد. طفرت ادمعي غير مصدق وخرجت لا ألوي علي شي الي خارج السكنة التي كانت بداخل الجامعة وبكيناه وتيسير زوجتي كصديق واخ قبل اي شي آخر.
بعد عامين يشاء القدر أن نحضر سويا الي الدوحة أنا والراحل حميد ونسكن مع الشباب أصدقاء مصطفي ومنهم عبد المنعم علي الفكي وبدر الدين الامير في شقة كانت تطل علي فسحة سوق الذهب وهي ليست الشقة التي توفي بها مصطفي.
حكي لنا عبد المنعم بعد ذلك تفاصيل رحيل مصطفي وياله من رحيل ساهل وبسيط كان.
كان الحزن طابع الأيام الأولي حيث أقمت وحميد في غرفة واحدة كنا نجتر فيها الذكريات عن الراحل الي أن يبدأ حميد طقوسه الليلية العجيبة ما قبل النوم و التي تشبه الي حد كبير طقوس المتصوفة الغارقين .
حميد كان غالبا ما يهمهم ويستمر في الهمهمة لفترة طويلة وهو مستلقي علي ظهره وكأنه يستدعي او يستدعيه ملاك الشعر وليس شيطانه / لا ادري لماذا سموه بالشيطان !!!!!!!
سكنا وحميد في غرفة واحدة لشهور ألي ان شاءت لنا الظروف بالعمل في قطر لفترة من الزمان..
كتب عدد من الناس عن مصطفي وتحدث ووصفه البعض بأنه كان من طينة الفلاحين الثوريين وضمه البعض للحزب الشيوعي السوداني، ولكن مصطفي فعليا كان ثائرا من أجل إعادة التوازن الاخلاقي للشخصية السودانية ومنافحا او مكافحا عظيما لأساس البلاء المتمثل في الإسلاميين و حكومة الإنقاذ بما أتت به من هدم عام.
إنحاز الرجل وأنتمي للطبقات الشعبية وعمل علي التعبير عن قضاياها وأشواقها. ذلك كان الإتجاه الفكري العام لتجربته. أما مأثرته فتمثلت في إختياره لنوع جديد من الشعر والشعراء من أبناء الهامش الثقافي المتمرد المناؤي للاوضاع و الباحث عن حداثة فنية وشعرية كأرض لم تطاها أقدام الكثيرين من الشعراء التقليديين.
مصطفي كان يقول في مرات كتير أن بمقدوره ان يلحن مقالا صحفيا، وتلك إشارة بليغة لعمق القدرة وخصوبتها في التلحين والشعور بمضامين الأعمال الادبية.
الآن وعندما تأتي الذكري السنوية لمغادرة مصطفي وتتراكم السنوات تتحرك غرف ذاكرتي وتفتح أبوابا علي بعضها البعض و تتردد في أٌذنى عبارته المرعبة :
يا زول أنا ميت ميت.
يا له من موت منتج يا مصطفي عندما كتب الخلود العظيم لصاحبه والحضور الفخم له في كامل تفاصيل حياتنا.
لم تزل حيا معنا وفينا وكم نحبك يا مصطفي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.