عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. كان موضوع العلاقة بين المثقف والسلطة هو المحور الرئيسي للأوراق البحثية التي قدمت على هامش منح جائزة الطيب صالح للإبداع الكتابي في دورتها السادسة التي جرى الاحتفال بها في الخرطوم ، في يومي 18 و19 فبراير 2016م المنصرم ، بحضور ومشاركة لفيف من الأدباء والمبدعين والنقاد والأكاديميين والباحثين من داخل السودان وخارجه. وقد استوقفتني بصفة خاصة من بين الأوراق التي قُدمت بتلك المناسبة ، ورقة الدكتور إدريس سالم الحسن ، أستاذ علم الاجتماع بجامعة الخرطوم الموسومة ب " المثقف والسلطة: المأزق الوجودي للمثقف / الفكر في عالم متغير (مقدمات في سبيل محاولة ). ذلك بأن ورقة الدكتور إدريس سالم قد وُفقت إلى حد كبير جداً في تحرير هذه الإشكالية ، وفي استكناه هذا المصطلح المركّب: " جدل المثقف والسلطة " ، تحريراً واستكناهاً واضحاً ونافذاً ، بل موحياً وفاتحاً لشهية الجدل الخصب والمثمر حوله. لقد قارب مُعدّ الورقة هذه الإشكالية مقاربة عميقة واستقصائية في تقديرنا ، وذلك على المستوى المعرفي والفلسفي ، كذلك على مستوى استعراض وتحليل مختلف الخطابات والسياقات ذات الصلة. كذلك أثار المؤلف في ورقته تساؤلات نعتقدأنها سديدة ومفتاحية ، من أجل مقاربة هذه الإشكالية على نحو صائب ودقيق وشامل بقدر الإمكان ، وذلك من قبيل: من هو المثقف ؟ ، وما هي علاقته بالمفكر والمتعلم ؟ ، وأي مثقف وأي سلطة ؟ ، وما هي العلاقة بينهما ؟ وما إلى ذلك من التساؤلات التي تندرج بحق في إطار محاولات التقعيد والجهد المنهجي والتنظيري الدائب المتعلق بهذه الإشكالية بصفة عامة. وفي هذا الجانب يقول الدكتور إدريس سالم ما يلي في ورقته: " إن نقاش العلاقة بين المثقف والسلطة به ما به من إشكالات متعددة على مستوى التنظير والمنهجية والواقع العملي. ومع أن مسألة العلاقة بين المثقف والسلطة تقع ضمن إشكالية طبيعة العلاقة بين مستوى الفكر ومستوى الواقع الاجتماعي ، وما يكتنف ذلك من تعقيدات فلسفية ونظرية ، إلاّ أنّ العلاقة بين المثقف والسلطة تبدو شائكة أكثر في الواقع المعاش ، لأن عناصر العلاقة غير محددة تحديداً دقيقاً من جهة ، ومن جهة أخرى فإن الباحث في هذه العلاقة هو عين المثقف ! أي بمعنى آخر كما لو أنه مطلوب من المثقف أن يحدد مركز الثبات في رمال متحركة يخوض في خضمها. ثم إنّ المثقف ليس شخصاً أو شخصية واحدة ذات ملامح وصفات واضحة المعالم ، أو لها نمط فكري أو سلوكي واحد معروف. ومن ناحية أخرى ، ماذا نعني بالسلطة ؟ وهل هي سلطة واحدة أم سلطات متعددة ؟. فإذا كان للمثقف ، وكذلك للسلطة صور متعددة ، فكيف لنا أن نتحدث عن كليهما بصفة المفرد ؟ .. " انتهى الاقتباس من الورقة. ومهما يكن من أمر ، فإن فحوى هذه الورقة التي نحن بصددها ، ينحو بصورة إجمالية – ونوافقه نحن كذلك – على أن المثقف هو كل صاحب محصول أو عطاء أو تميز نسبي فكري أو إبداعي ، كثير أو قليل ، داخل مجموعة بشرية ما ، يعبر عنه منطوقاً أو مكتوباً ، وذلك حتى لا نحصر الثقافة في المتعلمين وحدهم ، أو في من يحسنون القراءة والكتابة دون سواهم. ففي تاريخنا الوطني على سبيل المثال ، كانت مهيرة بنت عبود امرأة أمية على الأرجح ، ولكنها كانت امرأة مثقفة مبدعة على طريقتها ، وقد قارعت بتلك الصفة سلطة الخديوي إسماعيل باشا وقواته التي غزت السودان في عام 1821م ، فقالت في معرض الهزء والسخرية بتلك القوات الغاشمة ، شعراً سارت به الركبان في السودان ، وما يزال يتردد صداه إلى الآن ، منه قولها: يا الباشا الغشيم قول لجدادك كَرْ ! فوصفت الباشا بانه " غشيم " أي: أحمق ، ووصفت جنوده بالدجاج لجبنهم في نظرها ، و طلبت منه أن يزجر دجاجاته تلك بأن يقول لها: " كَرْ ! " ، أي ابتعدن بعيدا. وكذلك كان المادح الشهير " حاج الماحي " أميّاً ، ولكنه كان مثقفاً ، بل يوشك أن يكون عالماً خصوصا بالسيرة النبوية. وقد كانت له مواقفه المصادمة لسلطة الإدارة التركية المغتصبة وبعض حلفائها داخل السودان. وكذلك كان مهرجو سلاطين الفور الذين يُعرف الواحد منهم ب " الموقاي " ، مثقفين ومبدعين على طريقتهم على الرغم من أنهم كانوا أميين أو شبه أميين. وهؤلاء يجسدون بامتياز التباس العلاقة وتعقيدها بين المثقف والسلطة ، خصوصاً لجهة علاقتهم بالجماهير. فهم من ناحية ، مقربون من السلطة لأنهم مادحوها والمروِّحون عنها ، ولكن لهم وظيفة تقربهم من الجماهير لأنهم يمثلون صوتها وضميرها لدى هؤلاء السلاطين. فما لا تستطيع الجماهير إبلاغه لأولئك السلاطين خوفاً من بأسهم وسطوتهم ، فإن جماعة الموقاي سيبلغونه لهم وليس عليهم من حرج. هذا ، ومن الملاحظات الصائبة التي أوردها المؤلف في معرض حديثه في ورقته عن المثقف ودوره في المجتمع ، أن إثارة سؤال علاقة المثقف بالسلطة ، خصوصاً في جانبها السياسي ، يرتبط باليسار عادةً حتى في الغرب. ويمضي في توضيح ذلك على النحو التالي: " ومن جانب آخر يرتبط إثارة علاقة المثقف بالسلطة من جانبها السياسي أيضاً ، باليسار عموما حتى في الغرب ، من باب صلته بالجماهير والتغيير الاجتماعي والسياسي ، التزامه بذلك كقائد للطليعة (لوكاش) ، أو عضوياً مع الجماهير (قرامشي) ، أو مُنظِّرا (التوزي). وقد برز ارتباط المثقفين بالنواحي السياسية وميلهم نحو اليسار في القضايا المجتمعية في إفريقيا والعالم العربي أثناء حروب التحرير والصراعات التاريخية مع الاستعمار ، ما أعقبها من تحديات بناء الدولة وعلاقتها بقضايا الحركة العمالية والمزارعين .. " أ. ه وكأن المؤلف يومئ من خلال هذا التحليل أيضاً ، إلى أن لدى اليساريين عموماً ، شبه قناعة بأن الثقافة واليسار من حيث هما ، وجهان لعملة واحدة ، او كأن من تمام آلة الإنسان المثقف عندهم ، أن يكون يسارياً ضربة لازب. هل يا تُرى ، لأنّ المثقف أو المبدع تحديداً ، هو عادة شخص " مبدِّع " بتشديد الدال مع كسرها كما نقول في كلامنا العامي، أي: مفارق للسائد والمألوف والوضع السكوني والجامد ، وتلك الصفات هي من لوازم المحافظة واليمينية ؟. ولذلك نجد أن جل النماذج الكلاسيكية ل " المثقفين " الذين صادموا السلطة أو صادمتهم السلطة بالأحرى في تعاطي البعض مع تراثنا العربي والإسلامي ، تأتي غالباً من المعسكر الذي يتعاطف أو يتماهى معه الكتاب والمبدعون والنقاد والباحثون ذوو النزعة اليسارية بصفة عامة. فتراهم – على سبيل المثال – يتعاطفون مع " الحلاج " في مواجهة الخليفة العباسي ، كما نراهم يناصرون ابن رشد بإزاء المنصور بن أبي عامر الأندلسي. ولكنهم في المقابل ، لا يلقون بالاً لاضطهاد الخليفة العباسي المأمون للإمام أحمد بن حنبل ، الذي أمر بحبسه وضربه وتعذيبه لكي يحمله على اعتناق رأي السلطة السياسية بالأساس فيما يتعلق بمسألة خلق القرآن ، كما أنهم غضوا الطرف تماماً عن مكارثية المعتزلة الذين حرضوا تلك السلطة السياسية ضد ذلك الإمام " المثقف " على كل حال ، مثلما أنهم لم يستهوهم صمود الإمام مالك بن أنس في وجه ما لقيه من سجن وتعذيب دفاعاً عن رأيه القاضي ببطلان طلاق المكره. ومن الواضح أنَّ هذا الموقف ينطوي على قدر بين من اللامبدئية والتطفيف ، فضلاً عن أنه لا يلتزم جانب " الجماهير " التي هي في هذا السياق بالتحديد ، التيار العام من المسلمين من أهل السنة والجماعة التي ظل يقودها ويمثلها " مثقفون " من أمثال أحمد بن حنبل ومالك بن انس. على أن من أروع الأمثلة في تقديرنا لصراع المثقف مع السلطة ، بل السلطات في تراثنا الثقافي السوداني المحلي ، هي سيرة الشيخ " حمد النحلان ود الترابي " الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي ، وتوفي في مطلع القرن الثامن عشر في حوالي عام 1704م ، وذلك على النحو الذي ترجم له به الشيخ محمد النور ود ضيف الله في كتابه الشهير: " الطبقات ". فأول مظاهر مصادمة الشيخ حمد النحلان لتلك السلطات ، هو إعلانه التخلي عن مطالعة وتدريس كتاب " مختصر خليل بن إسحق " في الفقه المالكي ، وهو كتاب كانت له " سلطة " معرفية طاغية في سودان ذلك العهد بين فقهائه " مثقفيه " وعوامه على حد سواء ، حتى شاعت بينهم العبارة: " الما قرا خليل علمو قليل ! ". وقد جسر الشيخ النحلان على هجران مختصر خليل المذكور بعد ان سلك مذهب التصوف ، وذاق مشربه على يد الشيخ دفع الله بن أبي إدريس. وقد قال الشيخ حمد في ذلك قولته المشهورة لابن عمه وتلميذه " أبو كسيبة ": " أنا وخليل افترقنا إلى يوم القيامة !! ". وصادم الشيخ حمد النحلان أيضاً ، ما كان سائداً وراسخاً من بعض التقاليد والممارسات الثقافية والاجتماعية ، التي كانت تمثل بكل تأكيد ، سلطةً معتبرة يصعب تجاوزها في زمانه ، باعتبار أنها كانت من لوازم ومتعلقات أهل السلطات الروحية والاجتماعية القائمة حينئذٍ. فقد كان كما وصفه صاحب الطبقات: " لا يقبل الهدية ، ولا له جاه ولا شفاعة عند السلطنة ... ولا يكتب الحجب كعادة الأولياء .. " الخ. وفي موضع آخر من سيرته أنه رفض هدية أهداها له أحد زواره عبارة عن " كراع عنقريب " مصنوعة من خشب الصندل لكي يطيب بها خلوته ، فألقى بها بعيداً وقال له مقرّعاً: " يا كيك .. ذكر الله بطيّب ولا بطيّبوه ؟ " ، وذلك في روح سلفية سنية صميمة ، ومخالفة لسلطة التصوف وجوها العام الذي كان مخيما على البلاد آنذاك. وقريب من ذلك ، انتقاد الشيخ حمد النحلان وتشنيعه على بعض الناس للطريقة التي كانوا يذكرون الله بها ، وذلك في قوله للفقيه إدريس ولد الأزرق: " ... أخوانك الفقرا يكرُّوا في الحلقة عاعْ .. عاعْ .. أهانوا الدين الله يهينهم ! ". وما أشبه هذا الجسارة الفكرية ، والشجاعة الفائقة في الصدع بالآراء لعمري ، بأسلوب حفيده الذي رحل عن دنيانا مؤخراً ، الشيخ الدكتور حسن الترابي عليه رحمة الله. ذلك ، ولم تقتصر شجاعة الشيخ النحلان وجسارته على مواجهة السلطات الثقافية والاجتماعية والروحية والمعرفية فحسب ، وإنما تعدتها إلى مصاولة السلطة السياسية ذاتها. فقد أورد ود ضيف الله في معرض ترجمته للشيخ حمد ود الترابي قصة هذا الشيخ مع " سليمان ولد التُّمامي " أحد القادة العسكريين التابعين للسلطان بادي الأحمر ملك سنار آنئذٍ ، حينما قام بتجريدة عسكرية بغرض جمع الضرائب والأتاوات بصورة متعسفة وعنيفة من سكان القرى والبلدات المحيطة بحلة الشيخ النحلان في شمال الجزيرة ، فلجأ أولئك المساكين واستجاروا بالشيخ لكي يحميهم من سطوة أولئك القادة القساة القلوب وجنودهم الأفظاظ. فلما وصلت تلك التجريدة إلى حلة الشيخ النحلان ، انبرى لها ، وأوسع قادتها ذماً وتقريعاً وسخريةً، ثم انتهى به الأمر بعد أن استفزه أحدهم وهدده بالقتل ، إلى أن مال عليهم " بسر الله " ، فهلكوا جميعهم هلاكاً شنيعاً ، حتى بلغ الخبر إلى السلطان نفسه في سنار ، فسارع إلى الاعتذار إلى الشيخ واسترضائه ، ثم أمر بسحب من نجا من أفراد تلك التجريدة فوراً ، كما أمر برد المظالم إلى أهلها كذلك. ورُفعتْ بتلك الكرامة ، تلك الطامة التي حلت بأهل منطقته ، فعاشوا من بعدها سالمين. ويصوِّر ود ضيف الله طرفاً من تلك الحادثة الطريفة قائلاً: " فقامت المقاديم (أي جمع مقدم أو قائد عسكري) كلها ودخلت عليه وسلّمتْ (المقصود هو الشيخ حمد).. وبقوا بعد قليلاً يظنو أنه يأمر لهم بالفرش .. قال لهم: امسكوا الجابرة .. جبرتْ على رؤوسكم الغُلادْ .. ما عندي ليكم عتانيب .. قعدوا وقال: وا قرمي على النصيحة القطّعتْ كليوتي !.. قال لفقير من الفرضيين اسمه إبراهيم ( يعني من ذرية الشيخ الفرضي الكبير ).. تجيب النصيحة ؟ قال: أجيبها يا سيدي.. قال: القاعد في وجهك من هو؟ قال: الشيخ نور (أحد المقاديم ). قال اسمه الآخر ؟ قال: الشيخ نور ولد عبد السلام.. قال الشيخ حمد: أبو نخيرة ؟ فضحك نور والمقاديم .. " أ.ه فهنا – كما هو واضح - يسخر الشيخ " المثقف " حمد النحلان من السلطة ممثلة في شخص القائد " نور ود عبد السلام " الذي يبدو أنه كان يلقب في الخفاء أو " تحت تحت " ب " أبو نخيرة " ، ربما لصغرٍ مفرطٍ في أنفه . وهو لقب يبدو أنه كان يكرهه ، أو أنه لم يكن يقال أمامه ، ولكن الشيخ النحلان يتردد في تذكيره به إمعاناً منه في الزراية الكاريكاتورية بهذا القائد المتسلط ، الذي أوقعه حظه العاثر في شايب الصوفية أبو سمّاً فاير ، كما جاء في كتاب الطبقات.