طفحَ إلي سطحِ الخطاب السياسي الراهن، تصنيف غريب للقوي السياسية إلي قسمين لا ثالث لهما، حكومة ومعارضة، وهو تصنيف مقبول وطبيعي في الظروف الطبيعية والعادية التي تجعل الجميع يدور في مدارِه، بمعني أن الجميع ينال حقوقه ويؤدِّي واجباته وفق الاتفاقيات المُبرَمة والدستور والقانون.. لكن عندما تقع إختلالات قاتلة داخل أحد المعسكرين، الحكومة أو المعارضة، أو كليهما، فإن عقد التقسيم والتصنيف ينفرِِط ويختل.. وبالتالي، لا الحكومة تبقي حكومة مُتماسِكة العناصر ومُنسجِمَة المواقف، ولا المعارضة معارضة.. وسبب ذلك بسيط، هو أن الحكومة الحالية حكومة تنفيذية وليست حكومة سياسية، بمعني أن(حكومة الوحدة الوطنية)هي حكومة أُنشئت عقب التوصل إلي اتفاقيات السلام مع قوي الهامش السوداني في مطلعِ الألفية الثالثة ومهمتها الأساسية هي (تنفيذ)تلك الاتفاقيات في فترة زمنية انتقالية أمدها أربعة أعوام، وبنهاية تلك الفترة تجري انتخابات حرة ونزيهة تؤدي إلي تحول جوهري نحو حكم ديمقراطي في مناخ يسوده الحريات وحقوق الإنسان وحكم راشد يحكمه صحيح القانون.. لذلك تجد أن الرابط بين عناصر الحكومة هي الاتفاقيات المبرمة بين أطرافها وسير تنفيذها وفق جداولها الزمنية، وتجدهم لذلك السبب، ليسوا علي رؤية سياسية واحدة او موحدة، وهذا يكفي للرد علي الذين يأخذون علي بعض عناصر الحكومة اختلافها مع زميلاتها العناصر الحكومية الأخرى في الرأي والرؤية والمواقف في بعض المسائل، فتجأر بالشكوى مما تجِد من خلل داخل الحكومة التنفيذية، وتطفق تبحثُ عن السند والعضد لاقتضاء حقوقها من قوي سياسية خارج الحكومة!! وهذا أمر جيد وظاهرة صِحِّة، وليس مظهر خروج أو مِعوَل هدم.. لكن، في نفس الوقت،هي حالة تُعبِّر عن مُنتَهَي الوهن السياسي، تسبق مرحلة الفوضى(Chaos) ثم الانهيار(Collapse)، إذا ما استمرت الأمور دون معالجة عاجلة للخلل الذي أدي إليها.. ولكن الحزب الحاكم، المؤتمر الوطني وجهاز الإعلام الذي يُهيمِن عليه، طفِقا يؤسسان، عن قصد، لمفهوم غريب للحكومة والمعارضة، هو أن: أي حزب أو تنظيم مشارك في الحكومة يجب عليه أن لا يتفق في الرأي ولا الرؤية ولا المواقف السياسية مع أي تنظيم/تنظيمات أو حزب/أحزاب خارج مظلة الحكومة!! وكذلك أي تنظيم أو حزب سياسي خارج الحكومة(معارضة)يجب عليه إن لا يتصل مع، أو يسند موقف، أو يجتمع أو يتظاهر لمساندة أي موقف، وطني أو غيره، أو حق سليب لحزب او تنظيم داخل الحكومة!! هذا مفهوم إرهابي ظلَّ يمارسه حزب المؤتمر الوطني لعقدين من الزمان، ظل خلالهم يمارس بتخصص، تقطيع الأحزاب السياسية العتيقة إرباً فيضعفها، ثم ينشئ من أجزائها المسلوخة أحزاباً صغيرة وخائفة من بقايا الحزب العتيق الذي سُلِخ منه، فيدفعها غريزة البقاء علي قيد الحياة إلي الأخذ بأسبابه، بالتزام الطاعة المُطلقة للحزب المُنقِذ، المؤتمر الوطني، الوَصِي والباذل لمعينات الحياة.. فإذا نظرت داخل حكومة الوحدة الوطنية ستري عدداً من أحزاب صغيرة، بالكاد تُرَي بالعين المجرَّدة، انشقت من أحزاب عتيقة بالية والتصقت بجدار المؤتمر الوطني تدور في فلكِه وتُسَبِّح بحمده وتدين له بالولاء والطاعة المطلقة مقابل الوزارة والجاه الذي يتبوأه داخل الحكومة، ومهمة هذه الأحزاب، إن جاز تسميتها أحزاباً، هي الإسناد أو الصمت تجاه مواقف حزب المؤتمر الوطني في القضايا المطروحة علي الساحة السياسية.. وأيضا تتميز تلك الأحزاب المُنشَقَّة والملتصقة بجدار المؤتمر الوطني لأجل البقاء علي قيد الحياة بأنها تعيش كالأسماك داخل مياه الحكومة، لأنها ستموت لمجرد خروجها منها، أقصد من الحكومة..هذه الأحزاب التي تعيش في مياه الحكومة رغم أسنِها، ساعدت المؤتمر الوطني علي فقدان الحياء كقيمة عظيمة للبقاء علي ظهر الأرض(إن لم تستحِ فأصنع ما شئت)بالموالاة المدفوعة الأجر، والسكوت عن هضم الحقوق الظاهرة للشعب والأمة وأطراف الاتفاقيات المبرمة، لأن تلك الأحزاب لن تجرؤ علي مجرد الصدع بالحق وتثبيته لأهله، وتعلم إنها إن فعلت ستجد نفسها في الشارع لتُترك عُرضةً للضياع والبطش من الجميع، هي جزيئات من أحزاب تقليدية لا تجرؤ علي إعلان نفسها كبديل تجديدي وإصلاحي للتنظيم الذي خرجت منه مُحتجّة علي تخلفها عن مخاطبة قضايا العصر لانكفائها وعدم مواكبتها.. ولكن، بدلاً من التحرر والنضال لتحقيق قضايا الأمة، اختارت هذه الأحزاب المستضعفة المستسلمة الارتماء في أحضان غول غاصب لكل شئ: الحريات والديمقراطية، حكم القانون، الثروة والسلطة وجهاز الدولة، وهذا الغول الذي جاء بانقلاب عسكري في خواتيم يونيو1989م ثم تحوَّل إلي حزب سياسي باسم المؤتمر الوطني، هو غول لا حدود لتسلطه وفساده، غول لا يقيم لهذه الجزيئات الحزبية وزناً ولا يحترمها، لأنها بسبب فقرها للرؤية وعدم الاستعداد لتقديم مشروع وطني، والتضحية لأجله والتبصير بمضامينه بما يوفر لها الاحترام والاستمرار والبقاء لمدة أطول وبكرامة، إلاّ أنها استمرأت هذا البيات الشتوي رُغم أنها تتكون من القوي الشابة والحَيَّة من كوادر التنظيمات السياسية العتيقة التي انسلخت منها، إلاّ أنها استجارت من رمضاء الطائفية والتوريث بنار الشمولية والتحقير والازدراء والفساد والإفلات من العقاب.. فهذه الجزيئات من الأحزاب التقليدية البائدة كانوا نوار تلك الأحزاب القديمة التي صارت كالريف السوداني، لم يبق فيها غير المُسنين والعجزة من الجنسين!! إلا أنها اختارت ما هو أسوأ من الطائفية والتبعية للسادة والأشراف، ألا وهو السكوت علي الظلم وتأييده وإسناده والقول بالباطل لإرضاء الجاني والقاتل المُبيد للشعب السوداني الذي تدَّعي هذه الجزيئات الحزبية تمثيله.. هي ظاهرة إذاً، تُعبِّر عن أسوأ أنواع النخاسة السياسية وخيانة القيم الكونية والمجتمعية والأخلاقية، وخسارة كبيرة أن ترضي الطليعة الحيَّة من أبناء الهامش السوداني بعد انسلاخهم وتحررهم من هيمنة الحزبين التقليديين الباليين، الأمة والاتحادي، أن يقبلوا بدور الكومبارس والطبَّال والساكت علي الإبادة الجماعية التطهير العرقي للشعب السوداني، وأخيراً مساندة الطرف المتنكِّر لحقوق أهل الهامش في كافة الاتفاقيات المُبرَمة.. ولاستكمال الفكرة المُراد معالجتها بهذا المقال، لا بُدَّ من إيراد الوضع داخل حكومة الوحدة الوطنية بعد توقيع اتفاقيات السلام المبرمة بين المركز والقوي الثورية من أبناء الهامش السوداني التي ظلت تحمل لواء الكفاح الثوري المسلح ضد نظام الإنقاذ، ودخول تلك الحركات المسلحة إلي الحكومة القومية في إطار آلية قومية لتنفيذ الاتفاقيات المبرمة والمفضية بالمُحصلة إلي إحداث التحول السلمي الديمقراطي عبر انتخابات حُرَّة ونزيهة.. هذه القوي الثورية الممثلة للهامش في الاتفاقيات المبرمة، تختلف حتماً في الشكل والمضمون والأهداف والآليات والظروف عن الجسيمات الحزبية التي كانت تشكل مع الإنقاذ/المؤتمر الوطني حكومة السودان..وتلك القوي المسلوخة من كياناتها السياسية والمعاد إنتاجها في حزب المؤتمر الوطني، ديدنها الطاعة العمياء وعدم النزوع إلي الاستقلال بالرأي أو الرؤية أو تبني موقف يخالف رغبة أو مزاج حزب المؤتمر الوطني.. بينما حركات الكفاح المسلح التي وقَّعَت علي اتفاقيات السلام ودخلت الحكومة لتنفيذها، هي تنظيمات دخلت الحكومة وهي تملك أمر نفسها وجيوبها مليئة بالخيارات، وإرادتها وحريتها في اتخاذ مواقفها وفق رويتها ومنهجها ومصلحتها وحقوقها المضمنة في تلك الاتفاقيات ليس محل مساومة. وهي واعية تماماً لالتفافات المؤتمر الوطني علي الحقوق والمكتسبات وجحدها وإنكارها أو تحويرها، مما يدفع تلك القوي الحرة، في سبيل الحفاظ علي حقوقها ومكتسباتها إلي اتخاذ مواقف مخالفة ومقاومة لسلوك حزب المؤتمر الوطني، وهو ما لم يألفه المؤتمر الوطني، وبالتالي يرفضه ويؤلب ضِدَّه، ويوجه آلة الإعلام الضخمة التي يهيمن عليها للمحاربة والتضييق علي الأطراف التي تطالب بحقوقها الخاصة، وحقوق وواجبات عامة مضمنة في الاتفاقيات التي قامت هذه الحكومة القومية لتنفيذ بنودها عبر فترة انتقالية موقوتة. ونحن نودِّع هذا العام2009م الذي كان زاخراً بالأحداث والمواقف الإيجابية منها والسالبة، ونستشرف عاماً آخر2010م وهو عام لولاء إيماننا المطلق بالله عزَّ وجل لما دخلناه لفرط ما هو متوقع فيه من أحداث عِظَام لشعبنا وأمتنا، ولكن لا نملك غير أن ندعو بالهداية الرشد للجميع وفي مقدمهم حزب المؤتمر الوطني الذي أذاق الأمة الهوان بالعند والعنت والجحود والتنكر لحقوق الأمة، حتى أتت بالوطن في مؤخرة الأوطان في الرشد والعدل والأمن.. نسأل الله لنا ولهم الرشاد والهدي والتقي، بينما الهم الأول لجميع شعوب الدنيا للعام القادم هو توفير أفضل الظروف للاستمتاع بفعاليات كأس العام الذي تحتضنه قارتنا الحبيبة إفريقيا، نحن وحدنا من يشيب رأسه بألف هم وهم ليس من بينهم المونديال الإفريقي، وكأننا شعب، من دون شعوب الدنيا، جئنا فرياً او أتينا موبقاً نستحق عليه العذاب الهُون. نقول في خواتيم العام2009م، لا للمعادلة الوهمية والمضللة بتقسيم الشعب وتنظيماته إلي جذر معزولة، إلي حكومة ومعارضة، فالكل حكومة ما دامت الحكومة تخدم الشعب وتصون كرامته وتعمل لسعادته، وتنفذ التزاماتها وعهودها. والجميع معارضة إذا ما انحرفت الحكومة عن واجبها وقمعت الشعب وتنكرت لالتزاماتها وقوَّضت القانون وأخرجت أثقالها البائدة من مواد القوانين التي أبطلها الدستور لأنها تصادر الحقوق الأساسية(المادة/127من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م).. هذه هي الفكرة التي أردت توضيحها لكشف الحُجُب عن الثنائيات السخيفة التي تمتلئ بها الذاكرة الثقافية السائدة للشعب السوداني ومنها: ثنائية الحكومة والمعارضة، الهلال والمريخ، الجنوب والشمال، العرب والأفارقة، الختمية والأنصار، كلها ثنائيات انتهازية كرَّست التمييز والفُرقة التشرذم والشتات والمحسوبية والفساد داخل المجتمعات التي تكون مجموع شعوب السودان. abdelaziz sam [[email protected]]