هل لاحظتم مثلى كثرة "الضبّاحين الكِيرِى" المنتشرين على جانبى طُرقات الخرطوم، يجلسون على أعقابهم فى صبر وعشم، جلسة متأهبةً متحفِّزة، وبجوارهم "جنقور" شوال فيه "عِدّة الشغل"، يشهرون سكاكينهم الحادة فى وجوه سائقى العربات الفارهة وغير الفارهة، فى اعلان صامت (يرجون أن يكون فعّالاً) عن خدماتهم التى ازداد عليها الطلب مؤخّرا فيما يبدو. كان اللحم فى طفولتى فى ديار الشايقية فى منتصف القرن العشرين، شيئاً عزيزاً نادراً، نراه ونشمه ونستنشقه ونتلمسه ونتذوّقه ونتمسّح بدهنه وباقى مرَقَته ونحافظ على أصابعنا مُضمّخة برائحة غموسه مرتين فى الأسبوع: السبت والأربعاء-أيام السوق. وكان يوم السوق عيداً صغيراً نهفو اليه وننتظره لأنه يوم الطبخ باللحم ( بينما يكون "المُلاح" باقى أيام الأسبوع عاطلاً عن اللحم، مُقتصراً على لونين من ألوان قوس قُزح ليس بينها اللون الأحمر: الأخضر (بشروحاته)،والأغبش ( اللون الرسمى لكل شئ آخر). كُنّا ننتظر يوم السوق بفارق الصبر وبكثير من الّلُعاب، نعود عند الغروب مُسرعين، نحن وحميرنا، بعد "حَشّ القَش" والواجبات الأخرى، تستقبلنا رائحة "التبّان" (الطبيخ) عند مشارف القرية،تتصاعد من كل البيوت، أبخرة سحرية، تقُودنا كالمُنوّمين الى بيوتنا، لننتظر فى "الدُونْكَا" ( وهى كلمة علمتE فى آخر عُمرى أنها من أصل نوبى -مثل كل شئ آخر- لم يكُن للسودانيين المستعربين أحفاد العبّاس مُرادفاً فى اللغة العربية لخلوّ تلك اللغة البدوية من مصطلحات الحضارة، وتعنى عند أهل السودان المطبخ او "التُّكل" والتى هى الأخرى كلمة أثيوبية لنفس السبب)، متحلّقِين حول النار نستبطئها، يعتصرنا "القَرَم" ومايشبه السعار! ثُمّ نأوى الى عناقريبنا وبروشنا بعد الوجبة الفاخرة دون أن نغسل أيدينا حتى نستمتع برائحة التبّان الزكية المُسكرةُ، نياماً وأيقاظاً. كان الجزّارون آنذاك ، وما زالوا، يُشكّلون فئة اجتماعيّة متميّزة، وهبها الله سعةً فى الرزق وسط الفقر المادى لِمن حولهم، وبسطةً فى الجسم بِفضْل "المطايب" من اللحم وخاصة "سنّ البرق" التى يستأثرون بها دون زبائنهم ذوى الأجسام المعروقة، وقوةً بدنيةً خارقة تُمكّنهم من قهر الثيران الهائجة، والرجال الذين قد تقودهم حماقتهم الى الدخول فى مشادّة مع أحد الجزارين.وقد وهبهم الله من الزوجات ما أباح فى كتابه العزيز مُثنى وثلاث ورباع، وما ملكت أيمانهم، ومن الذرّيّة ما شاء الله. وكان الجزارون، ولعلّهم مازالوا، جهيرى الصوت مما يؤهلهم لتصدّر المجالس وكسب "الحِجّة" حول أى أمرٍ، وارهاب خلق الله الآخرين الذين "هَدّ حيلهم" سوء التغذية ونقصان بروتينات اللحم. وكانت الجزارة مهنة مُربحةً ومُريحة فى آن، ينفضّ السامر فى الصباح الباكر، وتعود الغالبية الى ديارها تحمل ربع "الوقّة" الثمين فى "القفيفة" دون حائل كثيف أو "رهيف" (اذ أن "ورق اللف" لم يكُن قد أخْتُرِع بعد، ولم تكُن الصُحف قد وجدت طريقها الى تلك المجاهل).ويتفرغ الجزّار الى أدواره الأخرى فى اقتصاد القرية من زراعة وتجارة و"هَمْبَته"وغيرها. وكانت المناسبات الأخرى للاستمتاع باللحم هى عيد الأضحى ( أو عيد "الربيت"--الشحم المشوى والذى كان حَلْوَانا بعد انقضاء أيام العيد ونفاذ لحمه )، و"الرحَمْتَات"،و"الصدَقَات" فى المآتم(التالته) . وكانت الصدَقات ، على ارتباطها بالموت والحُزن، مناسبات سارّة لنا لارتباطها بوجبة دسمة، وباللحم. يقودُونَنا من خلوة الفكى عبد الوهّاب فى نورى، حُفاة ضامرين فى "عراريقِنا البلدية فوق الرُكبة"، نقرأ فى آليّة ما تيسر من آى الذكر الحكيم بأصواتنا المسلوخة، وقلوبنا وحواسنا كافة معلّقة بروائح الأكل المنبعثة من داخل الحيشان. وحين يهلّ قدح/صحن الفتّة، نتخطّف اللُحيْمات القليلة المنشورة فوق الفتّة ولا نأكلها حتى لايصرفنا ذلك عن ابتلاع نصيبنا من كميات الأرز والكسرة المحدودة والمتناقصة فى سرعة البرق. ونجعل لُحيْمَاتنا فى جيوب عراريقنا المتّسخة ولا نخرجها الّا حين وصول الشاى الأحمر، وعندها نُخرجها من مخبئها ونقضمها فى تلذّذ صوفى، تتنازعنا اللهفة لازدِرادِها بسرعة، والرغبة فى التأنى لإطالة الإستمتاع بمذاق اللحم النادر. ثمّ نُسرع مباشرة الى النيل نبتغى "فشّ" الوجبة الدسمة ونحن نسأل الله ( دون خبث أو سوء نيّة) أن يُكثِر مثل هذه المناسبات "السّارة"! وحين "تطوّر الطِّب" وأصبح اللحم متوفراً طوال أيام الأسبوع (وطوال الليل كما نرى الآن)، فَقَدَ طعْمَه وقِيمَته ولذّة ندرته ، وأصبحنا تستمع لنصائح الفرنجة الفجّة حول خطورة الدهون والكلسترول وانسداد الشرايين والنُّقرس، فنتجنّبه (الّا من شغف مُزمِن زرعته فى أعماقنا أيام الزلعة القديمة).كثُر العرض فى جزارات باهرة الإضاءة، "مُسرمَكة" انتشرت فى كل أركان العاصمة، تفتح أبوابها ليلاً ونهاراً، تعرض أكوام لحمها لنظرات الجموع الملتاعة المحرومة التى دبَغَها "البوش" و"الدكوة"، ولأسراب الذباب وأغبرة الحافلات، وقلّ الطلب بسبب الفقر المُودِى بأهله الى التَهْلُكة، والإرتفاع الخُرافى فى اسعار اللحم فى بلد يفخر بأن له أكبر ثروة حيوانية فى أفريقيا والشرق الأوسط ( من ضأن وماعز وأبقار وابل وتماسيح!) ولا عجب اذن فى أن بيوت المآتم أصبحت قِبلةً للكثيرين الذين يقرأون الفاتحة على ميتٍ لا يعرفونه أملا فى الوجبات الفاخرة، "جِيب لحمة زيادة للصينية دى"، والشاى والقهوة "سكّر برّه"، وأصبحت صالات الأفراح ( حتى تلك التى تشترط عدم اصطحاب الأطفال والكلاب) قبلةً "للحارِى" الذى يُقدّم خدمة جليلة لأصحاب الفرح بقضائه على كميات تجارية من الأكل كان مصيرها سيكون أكوام النفايات وأعلاف مزارع الدواجن. لماذا اذن ظاهرة انتشار "الضبّاحين الكِيرِى" فى طُرقات الخرطوم، دّاجى السلاح، فى وسط الإحْجَام العام بسبب قِلّة ذات اليد عن شراء اللحم (حيّاً وذبيحاً)؟ أقول لك : يبدو أن قِلّة من أثرياء الحرب والسلام والسياسة والنِّخَاسة، توقّفت عن شراء اللحم بالقطّاعى، ولجأت الى شراء الخراف حيّة تُرزق، يضعونها فى مؤخرة عرباتهم هى والضبّاح الكِيرِى"، ويذبحونها ويهرقون دماءها و"فرْتَتَها" أمام سراياتهم المنيفة ، فى أحيائهم الأنيقة من الداخل، القميئة من الخارج، يأكلون منها نتفاً، ويرمون باقيها فى أكياس النفايات لقمةً سائغة للباحثين عن الذهب فى مناجم النفايات. أكاد أسمع "مارى أنطوانيتنا"، تُطلُّ على خلق الله الغُبُش، من عربتها "العالية" من وراء الزُجاج المُعشّق، "مُحنّنة" حتى الكعبيْن والكوعيْن، مزركشة مزوّفة، "مربْربَةً"، تقول فى دهشة حقيقية : “ما لاقين لحمة؟ طيب ما ياكلو همبرقر!ّ" ، فأجيبها فى مُخيّلتى :" أيّا والله! ياكلو السِمْ " ! نقلاً عن صحيفة الرأي العام الغراء