***** لا أدري إنْ كانت مناهجنا الدراسية لا تزال تزخر بذلك النشيد أم أنه إندثر مع أشياء كثيرة عفا عليها الزمن! كنتُ تقريباً في السابعة من عمري (على ما أعتقد) عندما بدأتُ ترديد كلمات ذلك النشيد ... علمي أنت رجائي أنت عنوانُ الولاء أنت رمزٌ للفداء أنت رمزٌ للإباء لونك الأحمرُ فيضٌ من دماء الشهداء لونك الأبيضُ رمزٌ لسلامٍ ووفاءِ لونك الأخضرُ زرعٌ وإخضرارٍ ونماء لونك الأسود وجهُ السابقين الأقوياء فلتدم أنت لنا وليدم منك الوفاء لا أتذكر أنني كنتُ أعرف عَلماً غير ذلك العَلم المنصوب في باحة مدرستنا والذي تصطف خلفه كل المدرسة في طابور الصباح لترديد نشيد العَلم إيذاناً ببدء اليوم الدراسي! وللحق ، فالعَلم لم يرتبط وقتئذٍ بالوطن ، وإنما إرتبط – في مخيلتي الصغيرة – بطابور الصباح الذي كنتُ لا أطيقه خاصةً في شتاء بلادي اليابس حيث لا يُغطي نصفي العلوي سوى ذلك القميص الأبيض ذو الأكمام القصيرة الذي ساعد في ظهور طبقة قشرية في سواعدي ويديّ ، وتشققات لا تخطئها العين ملء خدودي ، بينما لا يكسو نصفي السفلي سوى ذلك الشورت الأزرق القصير الذي لا يمنع لسعات البرد من أنْ تداعب جسدي النحيل من كل الجهات فلا مناص من أن ترتجف يداي العاريتان وساقاي النحيلتان من شدة البرد الممزوج مع شدة الخوف من التفتيش الذي ينتظرنا للتأكد من نظافة ملابسنا الداخلية ، وتقليم أظافرنا ، وحلاقة شعرنا بما يتناسب وشدة البرد .. أما في الخريف فقد كان الأمر أكثر سوءاً إذ يتطلب الأمر عناءً مضاعفاً لتجنب أطنان المياه الراكدة وبِرك الطين التي تُخلّفها الأمطار فتُغطّي كل المساحات المُخصصة للمشي .. إبتداءً من بوابة المدرسة التي ندخلها على أطراف أمشاطنا الأمامية محاولين الإستعانة بقوالب الطوب المرصوصة فوق بركة المياه الواسعة التي تُغطي كل البوابة ، مروراً ببرندات الفصول التي كانت تحتجز مياه الأمطار ، ليس حباً فيها ، وإنما لأن معظم البلاط الأحمر القاني الذي كان من المفترض أنه يكسو تلك البرندات قد تلاشى من مكانه بسببٍ أو بدون سبب ، وأنتهاءً بباحة المدرسة الرملية التي يُقام عليها طابور الصباح والتي تحولت بفعل الأمطار إلى منطقة منكوبة بالأوحال ، لذا كانت تلك الباحة تُمثل التحدي الأعظم لنا للوصول إلى أماكننا في الطابور دون (لطشة) طين غادر من تحت أقدام تلميذ متهور أو من آخر أكثر ذكاءً يمشي أمامنا وهو يحمل حذائه في يده ويلبس (سفنجة) ترسل علينا فتات الطين مع كل خطوةٍ يخطوها ، فنتأخر عنه قليلاً حتى لا تتحول قمصاننا إلى اللون الطيني الباهت ، فنُفاجأ به ينتظرنا محاولاً تخليص (سفنجته) التي إنغرست في الطين بكل ما أوتي من قوة فلا تخرج إلا والطين في أحضان كل من حوله ، أو ربما ننجح في المرور من كل هذه الحواجز الطبيعية ولكن تبوء محاولاتنا بالفشل إثر إنزلاقٍ عفوي لم يكن في الحسبان أو لم يكن من الممكن تداركه ... كل هذا العناء كان فقط من أجل الوصول إلى طابور الصباح بنفس الهيئة عالية الجودة من الهندام ونظافة الملابس والتي تشمل جواربنا (البيضاء) وأحذيتنا (السوداء)!! ولكن بالرغم من هذا الرهق البهلواني الذي صرنا مع كثرة تكراره اليومي نجيده أكثر من إجادتنا لمقرراتنا الدراسية ، لم تنجو سيقاننا وظهورنا من لسعات السياط التي ننالها بعصا أحد المدرسين وهو يمر من خلف الصفوف دون أن نشعر به ، ليتأكد من إشتداد رُكبتينا وعدم تقوسهما قليلاً للأمام أو ليمنعنا من الوقوف على قالبين من الطوب يحولا دون إنغراس أحذيتنا في الطين! لا أتذكر – أيضاً – متى تفتق ذهني لإدراك أنه لا ذنب للعَلم في تلك المعاناة التي مرت بنا أو مررنا نحن بها ، وبأنني مُطالب بحب العَلم والذود عنه - لا بكرهه وتحميله ما لا يحتمل ، فبدأتُ أنتهج ذلك النهج دون أدنى تفكير حتى جاء ذلك اليوم الذي أحرجتني فيه إبنتي الصغيرة بسؤالٍ مُباغت لم يكن في حسباني عن أهمية العَلم وفوائده ، فلم أجد غير الذهول أجابة عليها ، فأنا – حقاً – لا أعلم له فوائدٌ أكثر من كونه يرفرف فيُخبرنا عن إتجاه الريح ، وأنه يقطُن باحة مدرستنا القديمة ليستمتع بمشاهدتنا ونحن نُضرب في طابور الصباح دون أنْ يذود عنّا ، فنحييه على شجاعته – بأعينٍ غارقة في الدموع ، وأجسادٍ مستغرقة في الألم من أثر السياط ، قبل أنْ نتوجه لفصولنا ونبدأ يومنا الدراسي الجديد مكسوري الخاطر .. وربما تكون من أهم فوائد العَلم أنه الشيء الوحيد الذي تمنحنا عليه حكوماتنا (كامل الحرية) لممارسة حق التعبير عن غضبنا تجاه أعداءنا – من شاكلة أمريكا وإسرائيل اللتان تقتلانا ولا تجدان منا رداً أفضل من إضرام النيران على أعلامهم ، والبصق عليها بكل قرف وقوة أمام كاميرات التلفزيون ، ودهسها تحت أقدامنا في حُرقة وغيظ ، بينما الشرطة لا تُحرّك ساكناً ولا تحاول إعتقالنا ، بل وأحياناً تنهرنا وتوبخنا إن نحنُ تأخرنا في وضع تلك الأعلام الشريرة على ظهر حمارٍ أجرب نجوب بها أرجاء المدينة .. لا أشك مُطلقاً في أنَّ أمريكا وإسرائيل يشاهدان ثورتنا وإحراق أعلامهم – كل يوم - على قناة الجزيرة .. لأنهم لو لم يكونوا يشاهدونها فلماذا نحرقها؟! ولذلك أستغرب كثيراً لعدم ثورتهم أو ثورة شعوبهم ضدنا والرد علينا بإهانة أعلامنا!! .. هل من المعقول بأننا الشعوب الوحيدة في هذا العالم الفسيح التي تشن حروباًَ ضروس ضد حفنة أعلامٍ لا تسمن ولا تغني من جوع ، لذلك فهم لا يصدقون ما تراه أعينهم ، أم أنهم يسيئون الظن بسلامة قوانا العقلية ولذلك يتجاهلوننا ولا يعيرونا إهتماماً؟! حقائق تاريخية ... وتساؤل: - عَلم السودان القديم (ذي الثلاثة ألوان) والذي أستشهد الكثيرون في سبيل رفعه عالياً يوم إستقلالنا قد تم إستبداله بالعلم الموجود اليوم (ذي الأربعة ألوان) الذي تتحدث عن ألوانه القصيدة (العصماء) أعلاه ، والتي أدركتُ حديثاً بأنها لم تكن قصيدة وطنية وإنما تم صياغتها على عجالة كتبرير لإقناع عقولنا – الصغيرة - بألوان العلم الجديد! - تم إستبدال العلم القديم بالجديد لأن ألوان الأول كانت أقرب إلى ألوان الأعلام الأفريقية ، بينما يحمل العلم الجديد نفس الألوان التي تحملها معظم الأعلام العربية ك (فلسطين والكويت والأردن ... الخ) حتى أننا في بعض المؤتمرات العربية لا نستطيع التمييز بين علم السودان وأعلام تلك الدول! - السؤال الذي يؤرقني حقاً هو .. إذا كان من السهل على دولة أنْ تستغني عن عَلم إستقلالها بما له من قيمة تاريخية عظيمة ، وتسعى بنفسها إلى رميه – بكل برود - في مزبلة التاريخ دون أنْ تبكي عليه ، فما قيمة المُحافظة على علمٍ لا تاريخ له يظل يُرفرف فوق رؤوسنا؟! فروقات: الفرق بين السياسة التعليمية ، والتعليم السياسي: السياسة التعليمية: هي خطة علمية دقيقة تُساهم في تخريج أجيال من الشباب ولاءهم وإنتاجهم الفكري للوطن التعليم السياسي: هي خطة نفعية دقيقة تُساهم في تخريج أجيال من الشباب ولاءهم وإنتاجهم الفكري للساسة الفرق بين العَلم والوطن: العَلم: لا يخدم أحد ، فالكل يعملون على خدمته بما فيهم الوطن الوطن: الكل ينتظرون منه أن يخدمهم ، ولا أحد يخدمه بما فيهم العَلم تعريف الإستقلال الحقيقي ليس هو التخلص من براثن المستعمِر وإنما هو إنعتاق العقول من تصديق الساسة 1/1/2010