هناك البساطة عنوان لكل شيء، الحياة تبدو سهلة من غير تعقيد، كل شيء على أصله وطبيعته، لا مكان للتكلف.. قرية الحمادي شمال، من قرى بلادي الحالمة تتبع لمحلية القوز بكادوقلي، بولاية جنوب كردفان، لها حكاية عيون بريئة ترنو الى المستقبل رغم الواقع المظلم الذي يعانيه الصغار، تفاصيل الحكاية لمدرسة من فصل واحد مبني من القش، واطفال صغار يرددون نشيد «العلم» السلام الوطني في الطابور الصباحي في فناء من غير سور، يشاركهم أطفال آخرون المكان الرحيب، ليس في الفصل الواحد بل يجاورونهم بأغنامهم وهي ترعى بالقرب من «سنة تانية» الصف الثاني الذي لم يكتمل ليكون مكانا للعبة المرجيحة الى ان يكتمل وينعم عليه «بربط» من القش. في رحلتنا الي منطقة أبيي ومنذ ان خرجنا من حدود ولاية الخرطوم ظلت كاميرا «الصحافة» تتابع تفاصيل الحياة من بعيد من خلف شباك العربة.. وكانت الساعة تشير الى الثامنة مساءً وبضع دقائق عندما تحركنا من الخرطوم ونسمات الخريف تعطر الأجواء، ولكن الأمطار أجبرتنا على أن نمضي ما تبقى من الليل في ولاية النيل الأبيض بمدينة كوستي، وعند صحوة الساعات الأولى من الفجر استأنفنا الرحلة من جديد.. فأشرقت شمس اليوم الثاني في ولاية شمال كردفان بالقرب من مدينة الأبيض، وكاميرا «الصحافة» التقطت عدداً من الصور لمزارعين في «البلدات» يفلحون الأرض بآلات محلية بسيطة «السلوكة والجراية والطورية»، وخلفهم نساء وأطفال يرمون الحب في التربة الحمراء.. إنها صور لتفاصيل الحياة هناك تعكس حالة النشاط والبكور في حقول الزرع لبسطاء بلادي. تفاصيل الحكاية: وعندما وصلنا الى حدود ولاية جنوب كردفان، كانت الخضرة عنواناً لكل شيء، وتزين المكان بحلة خضراء زاهية تمددت لتغطي قمم الجبال والمرتفعات المبعثرة بجانبي الطريق، وبعد أن تجاوزنا مدينة الدلنج بدأت حكاية العيون البريئة بتعليق من «السائق عصام» بعبارات بسيطة «عليك الله شوف الأطفال الصغار ديل واقفين في طابور الصباح وفصل واحد مبني من القش، عليك الله ده ما ظلم ديل طلبة وطلاب المدارس الخاصة هناك طلبة برضو». وقبل أن نبادر بسؤال أوقف «عصام» العربة وقال: «رأيكم شنو نمشي نزور المدرسة؟» اوقفنا العربة بالقرب من «الطابور» الذي انقسم الى صفين «صف للأولاد والآخر للبنات»، وقبل ان نقترب منهم رحبت بنا نظراتهم البريئة. اقتربنا من مديرة المدرسة التي تمثل كل الإصطاف، وبعد أن كشفنا عن هويتنا رحبت بقدومنا، ومن ثم توافد أهل القرية الى المدرسة ليكتمل الترحيب. وبعد ان عرفتنا المديرة «فاطمة» لتلاميذها، طلبت منهم تحيتنا بنشيد العلم فردد الصغار «نحن جند الله جند الوطن ..الخ»، وكان الطابور الصباحي مليئاً بالنشاط، والرغبة في التعليم تشع من عيون الأطفال، فبعضهم يلبس الزي المدرسي خاصة البنات، اما الأولاد فبعضهم يرتدي فنائل ملونة، ولم يغب الزي البلدي أيضاً «العراقي والجلابية» عن طابور الصباح، وأغلبهم ينتعلون «سفنجات» وشنطة مدرسية من القماش، بجانب أكياس البلاستيك وبعض الشنط المدرسية «فلة»، وبالقرب من المدرسة أغنام يتولى رعايتها أطفال يافعون لم يجدوا حظهم من التعليم، بجانب صغار آخرين يلعبون «مرجيحة» في «سنة تانية» في هيكل الصف الثاني الذي لم يكتمل والمشيد من الحطب. اصطحبنا شيخ القرية العم موسى علي موسى لنتفقد حال الفصل الواحد، وهو عبارة عن «كرنك» مبني من اللبن وبعض الطوب الأحمر واتخذ سقفه من القش، وبه نوافذ صغيرة عبارة عن فتحات لا تحتاج الى «شبابيك» تكفي لدخول الهواء، لأن الإضاءة تتسرب عبر جزء من السقف المفتوح، وداخل الفصل الضيق «سبورة» مازالت تحتضن حصة الرياضيات لليوم السابق، ومقاعد صغيرة من الحديد مكسية بحبال البلاستيك يبلغ عددها «16» مقعداً موزعة بجانبي الفصل دون «ترابيز» يكتب عليها الأطفال الذين اكتفوا بالاستعانة بأرجلهم الصغيرة لتحل مكان «الأدراج»، إنه حال الفصل. وتحدث إلينا العم موسى فقال: «مدرستنا بعد أن تم تصديقها من الولاية شيدناها بالمواد المحلية بجهدنا الشعبي، والمدرسة ليها أول سنة، وبدينا نبني في الفصل الثاني». وتابع شيخ الحلة «يا هو الحال زي ما انتو شايفين المدرسة محتاجة لي دعم كبير حتى تكتمل، ونحنا بدينا بي قدرتنا ومنتظرين ناس الحكومة يبنوها لينا». واضاف «هسه نحنا دايرين نعمل للمدرسة حوش «بالزرب» وبدينا نقطع «الشوك» لتكملة السور». وأوضح العم موسى أن فكرة قيام المدرسة نبعت من حرص أهل القرية على تعليم أبنائهم الصغار، الذين يجتازون مسافات بعيدة حتى يصلوا الى المدارس المجاورة، وتتضاعف معاناتهم في فصل الخريف، مشيراً الى ان بعد المسافة حرم كثيراً من الأطفال الراغبين في التعليم، ولذلك حرصوا على قيام المدرسة حتى تتسنى لفلذات أكبادهم فرصة الدراسة. وناشد العم موسى حكومة الولاية بحفر مضخة حتى ينعم الأطفال بالماء، لافتاً الى معاناتهم من انعدام المياه، مما يضطرهم للذهاب الى القرية اكثر من مرة أثناء اليوم الدراسي، ليشربوا ثم يعودون مرة أخرى الى المدرسة. واكتفت المديرة فاطمة موسى محمد بكلمات بسيطة: «المدرسة تحتاج للكثير، والأطفال عندهم رغبة أكيدة في التعليم، وهذا يتضح في بعض الطلاب من كبار السن الذين تجاوزوا سن العاشرة، فالتحقوا بالمدرسة ليبدأوا رحلة التعليم جنباً الى جنب مع الصغار»، مضيفة أن الدعم يأتي من أولياء أمور الطلاب لتوفير احتياجات المدرسة. وناشدت حكومة الولاية تقديم الدعم العاجل من أجل عيون الصغار حتى يجدوا حظهم من التعليم كغيرهم من أبناء الوطن. وتحدث إلينا أيضاً الأستاذ آدم حامد محمد، أحد أبناء القرية، ويعمل مدرساً بقرية مجاورة في مدرستها الثانوية، فقال إن السبب الأساسي في إنشاء المدرسة نتيجة الإزدحام الشديد في الوسط، مشيراً الى ان الحمادي قرية كبيرة تضم عدداً من القرى والفرقان، مضيفاً أن كثافة السكان دعت الى إنشاء مدرسة جديدة في الحمادي شمال، لتساهم في التعليم بالمنطقة وتخفف الضغط على المدارس الأخرى، بجانب انها أعفت الأطفال الصغار من الهجرة اليومية الى المدارس المجاورة لتضع حداً لمعاناتهم، مشيراً في الوقت ذاته الى ضعف البنية التحتية لمدارس الوسط التي انهار جزء كبير منها. وقال حامد إننا نعاني من مشاكل كثيرة، خاصة الإجلاس والطباشير والكتاب المدرسي الذي لم تصلنا منه النسخة الجديدة لعام «2010م» حتى الآن، ومازلنا نعتمد على النسخة القديمة، ولا ندري الإضافة من المحذوف في المنهج. وبالقرب من المدرسة توجد روضة الأطفال التي تغذي المدرسة، وحالها ليس بأفضل من الفصل الواحد.. فهم أطفال صغار يفترشون الأرض، وبعضهم يجلس على كراسي بلاستيكية اصطحبوها من بيوتهم، فالصورة وحدها تحكي. وناشد حامد الجهات المختصة تقديم الدعم العاجل للمدرسة، وقال نتمني من أية جهة منظمة، مجتمع مدني، أو منظمات الأمم التمحدة المهتمة بالتعليم، الاهتمام بمسألة بناء المدرسة، مضيفاً أن الجهات المختصة التي صدقت المدرسة عليها تحمل مسؤولياتها ومتابعة المدرسة. رسالة إلى والي جنوب كردفان سيدي الوالي عرفناك مهموماً بالتعليم وقضاياه، فها هي حالة مدرسة بفصل واحد من «القش» تتبع لولايتك، فقد آن الأوان لتنصف هؤلاء الصغار ببناء المدرسة، وتعتق العيون البريئة من الهجرة اليومية إلى مدارس القرى المجاورة. {}{