بسم الله الرّحمن الرّحيم من الخلل أن تبحث العلل والظّواهر في النتائج والأعمال، في ظلِّ تجاهل المقدِّمات والأسباب. فالنّاس عادة ما يلقون باللائمة على إنسان في موقف ما، دون النّظر إلى إذا كان هذا الموقف هو نتيجة ورد لفعل أو موقف سابق ام لا، ودون النظر إلى مقتضياته. فمن لم يستجيبون لصوت العقل والحكمة، لن يجدون بداً سوى مواجهة الجهلاء في زماننا هذا يخالفون السنن ويخرقونها فتختل حياتهم ويبدأ التنازع والصراع بين الناس، كل يلقي باللوم على الآخر، ولا يتحقق العدال، ولا تستقيم الأمور بسبب خلل المنهج. فلقد أدى التنازع في العقود الاخيرة على عدة مستويات، الى ظهور الصراع ونشوب القتال بسبب الخلاف الذي أملاه الهوى. وفي ظل ظهور التنظيمات المسلحة الخارجة على المجتمعات والدول والحكومات ، انتشرت الفوضى وغاب العدل والاستقرار. من بين مشكلاتنا في زمننا هذا، أن كثيراً ما يخطئون الحق من يلتمسونه. وأما أهل الباطل فهم يسرحون ويمرحون يعملون ليل نهار، والمسلمين في غفلة ساهون لاهون. لقد شكل تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام المعروف اختصاراً بتنظيم (داعش) تهديداً حقيقياً للانظمة الحاكمة والمجتمعات بكافة مكوناتها. وقد كان في استيلاء اليأس من إصلاح الحال عند الناس، أن لجأ نفر قليل الى مؤازرة هذه الفصائل المسلحة التي خرجت على السلطة لتحقيق أهدافها، ولكن هيهات. يمكن الزعم بأن ظهور تنظيم (الدواعش) المسلح هو نتيجة حتمية فرضتها ظروف موضوعية يقف وراءها صنف آخر من (الدواعش)، غير انهم لا يحملون سلاحاً نارياً، وإنما يحملون ما هو أخطر، عقولاً مفخخة، مهمتها صناعة الفتن والدسائس. ومكمن الخطر هو أن الناس يرهبون ممن يحمل السلاح، ولكنهم اقل رهبة ممن يحملون العقل المفخخ الذين يحتوي على ضلالات فكرية، وسموم عقلية، ونوايا خبيثة، وعقول مفخخة هي أخطر من آلات الحرب والدمار. قبل حقب ماضية ، بذر الغزاة المحتلون لبلاد المسلمين بذوراً ما تزال تثمر وتنتشر وتتمدد ، وما نعاني منه اليوم انما هو نتيجة لتلك السياسات التي كرس لها الغزاة جهودهم، ثم خرجوا ليتركونا وكلاء يصارع بعضنا بعضاً، بسبب الاستلاب الفكري الذي حدث. فالصنائع الذين درسوا في مدارس التبشير وغذوا بالفكر الوافد الدخيل ، حملوا لواء الغرب وظلوا يدافعون عنه بشجاعة. فالدواعش كما هو معروف موطن تنظيمهم هو أرض الشام، وهي أرض المحشر والمنشر كما هو معلوم. وهي اليوم تضطرم نيرانها بفعل (دواعش) العراق والشام وغيرهم، ولكنها ستكون في يوم قريب آمنة مطمئنة يأوي اليها النّاس من كل حدب وصوب كما ورد في الأثر، فالشام بقعة مباركة، يظل الرباط في سبيل الله قائم فيها. فمن ينظر للواقع اليوم في تلك البقعة يصاب بالاحباط ولكن، المستقبل مبشر وواعد. وأن ما يحدث اليوم هو تمهيد لمرحلة وواقع هو آت لا محالة، وفق سنن الله في الكون ونواميسه. ظلت دول العالم تسعى منذ سنوات لدحر دواعش البغدادي وهزيمتهم. ولكن ذلك يتطلب أول ما يتطلب دحر (دواعش) آخرين - يعلمهم من يعلمهم- هم لا يتبعون البغدادي، لا يحملون الاسم ولكنهم يحملون الصفة. فالدواعش الذين أعنيهم هنا - في المقالة- هم كل من تخلى عن مبادئ وأخلاق مجتمعه المسلم، وهم كل من كان عوناً لحاكم جائر، وهم كل من يدافع عن مصالح خاصة دون النظر للمصالح العامة، وان لم يكن يحمل السلاح. في تقديري فان ظهور (دواعش) مسلحون، هو ثمرة ونتيجة طبيعية لوجود سابق لدواعش غير مسلحين، كانوا هم السبب الجوهري في ظهور داعش المسلحة التي تهلك الحرث والنسل. ما كان للدواعش أن يظهورا في ظل غياب نظاميين هما السوري والعراقي. وما كان لهم أن يوجدوا أصلاً من غير دور للمخابرات الغربيّة التي استخدمت اسلوب الادارة بالازمة لتحقيق مآربها. وما كان لهم أن يحلموا بمشروعهم في ظل وجود أنظمة عربية ومسملة حاكمة تؤدي دورها ووظيفتها، تحمي حدودها، وتنشر العدل بين الناس وترفع الظلم. إن دوائر الحكم في البلاد العربيّة والمسملة أحدثت دماراً وتخريباً بالقوات النظامية بمختلف أنواعها، وأضعف وزوبت بعض المؤسسات المدنية المختلفة. فلم تعد ثمة مؤسسات ذات قوة وشوكة تقوم بوظيفتها، وكانت ثمرة ذلك انهيار في المجتمع، وزعزعة في القيم السائدة. ولقد بلغ الامر مبلغاً أن دب اليأس والقنوط في نفوس النّاس من استقامة الامور. وكان في ظهور داعش أمل لمن يئسوا من الاصلاح أن يتحقق الاصلاح على يد هؤلاء، ولكن أنى لهم! يمكن القول أن ما فعله الأسد ونظامه في سوريا، وما فعله المالكيّ بنظامه بالعراق، وما فعله معمر القذافيّ في بلاده، وما فعله على عبد الله صالح في (اليمن السّعيد)، (الحزين الآن)، وما تفعله بقية الأنظمة العربيّة التي هبت أو ستهب عليها، ريح ماسمي بالربيع العربيّ، يصب في خدمة (الدواعش). فقد فرش لهم هؤلاء الطريق بالورود والرياحين. وعُبد لهم الطريق ، فكان أن اضرموا النار في دنيانا وانشغل بهم الكل ظناً منهم أنهم يحسنون صنعاً. وفي تقديري أن في غياب التناصح، وسيادة مبدأ الشوري الحقيقية لا الزائفة في واقع المجتمعات، لا مناص سوى ظهور (الدواعش) لتعهد بذور صراع الجهالات الذي بذر بذوره انتشار الفساد والخلل والاضطراب في واقع المجتمعات. لعله من المؤسف حقاً أن في كل مؤسسة نظامية (دواعش)، وفي كل مؤسسة مدنية في البلاد العربية كافة يوجد نفر من الدواعش. هؤلاء وهؤلاء يتصارعون مع المصلحين الذين يريدون للامور ان تستقيم، بينما يريد لها الدواعش وأعولنهم ان تمضى على عوج، لعلة فيهم وأثرة لانفسهم، ولمصالح يريدونها دونما مراعاة للأخلاق والقيم العليا. وقد كان ضعف الأمّة العربية نتيجة طبيعية للخلل في حياة الناس بسبب البعد عن منهج الله ، وهو قد أغري ذلك بظهور (الدواعش) وانتشارهم. إن مشروع (الدواعش) لا يمكن ان يكون له مبرر للوجود غير الفشل الذي ظل يلازم الانظمة العربيّة التي لا تعدو انظمتها نمور ورقية. فالخدمة المدنية ونظيرتها العسكرية تعجان بوكلاء (الدواعش)؛ منهم الاغبياء، ومنهم المغفلين، ومنهم الحمقى، في كل زمان ومكان، عسكريين كانوا أم مدنيين. إن الحرج كل الحرج عندي، يقع على وكلاء (الدواعش) الذين تغري ممارساتهم بالانقضاض على السلطة. إن مواجهة الدواعش تحتاج لقومة (حسينية) لا مكان فيها لحساب الارباح والخسائر، انما يكون الحساب فيها للمبادئ. ومن يريدون هزيمة مشروع داعش عليه أن يخوض معركة الثوار، لا معركة التجار. فالتاجر يبحث عن الربح، ويتفادى الخسارة، أما الثائر، فيقدم نفسه رخيصة لهدفه النبيل. إن من يريدون الاصلاح يصطدمون دوماً بدوائر الحكم الجائرة، فالسلطة من شأنها الشطط والغلو في التعامل معهم، ولن يجدي سوى الصبر والتمسك بالفضيلة. ومن ناحية أخرى فان من يستجيرون بالسلطة لنشر الدعوة وتحقيق الاستقرار يعانون أصلا من ضعف البرهان . ولقد استغلت داعش الظروف التي تمر بها الامة، فقد غرّرت بالشباب الذي يعاني خواء روحياً، وضعفاً فكرياًَ اضيف اليه انتشار الظلم وغياب العدل، فمهد الطريق لقوة الدواعش، يقولون لا مكان للبعير في الطرقات المسفلتة، ولكن الانفلات الامني احدث خللاً واضطراباً اربك المشهد. إن الواقع يحتاج الى اصلاح، ولكن في فقه من يقول إن الصَّلاة مع على أقوم، وطعام معاوية أدسم، والجلوس وحدى اسلم، يمكن أن يكون قدوة في التماس طريق الحق، غير اننا نحتاج الى فقه العزائم، ومنهج الورع لا التقية بمفهومها السلبي. ما كان (للدواعش) ان يحققوا نصراً وانتشاراً، فهم جهال خوارج، لا يملكون غير السلاح الناري، والعقل المفخخ، ولكنهم وجدوا اغراءات بسبب الضعف والتفكك، وقدمت اليهم هدايا في طبق من ذهب من قبل الحكام الظلمة وأعوانهم فقبلوها. ونفثت في روعهم المخابرات العالمية فاطاعوها، وأمدهم من أمدهم بالسلاح. ومهما يكن من أمر، ليس على (الدَّواعش) وحدهم حرج، ففي ظل تدهور الأوضاع الأمنيّة وغياب دور العلماء الربانيين الذين يقودون السلطان ولا ينقادون لها. وفي ظل بروز فقهاء السلطة الذين يلبسون الباطل ثوب الحق، فان الدواعش وحدهم غير ملومين، وانما لهم شركاء يحسبون انهم يحسنون صنعاً. ليس على (الدواعش) وحدهم حرج في ظل وجود أنظمة فاسدة ظالمة على سدة الحكم وحولهم أعوانهم يزينون لهم باطلهم ويظهرونهم على أنهم أبطال. اسلحتهم لم توجه يوم ما لصدر العدو، لانها ظلت باستمرار تقتل من يخرجون للمظاهرات السلمية، أو هي في انتظار من يخرجون. وكيف يكون على (الدواعش) وحدهم حرج في ظل وجود الشح المطاع والهوى المتبع والدنيا المؤثرة، واعجاب كل ذي رأي برأيه في واقع حياة الناس. إنّ الحرج كل الحرج في تقديري، والمسئولية كل المسئولية تقع على عاتق على الانظمة العربيّة الفاشلة. وعلى من مكنوها سواء كانوا مدنيين او عسكريين. فمن لم يمت بسلاح (الدواعش) الوكلاء النّاعم، فله أن يموت بالسلاح الناري للدواعش العسكريين. لقد آن للأمة أن تغفوا وتصحوا وتنتفض وتغضب لأمر الله. فالدواعش أينما كانوا بصنفيهم ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله، يعيثون فساداً، ويأبى لله الا ان يتم نوره.هذه تبصرة وحقيقة خذوها مني، أقولها بملئ فمي، اسمعوها بقلب واع، وبعد أن تفقهوها ، لكم خيار أن تأخذوا بها، أو لا تأخذوا... يقول شاعر: إذا لم يكن حلم الحليم بنافع *** فان صراع الجهل للجهل انفع ... ليس على (الدواعش) وحدهم حرج! * أستاذ مشارك منتدب الى جامعة بحري- كلية الاداب والعلوم الانسانية- قسم الاعلام. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.