عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. المرة الأولى التي يُعهد فيها إلى سكوت غريشن، المبعوث الخاص الأسبق للويات المتحدة إلى السودان، للقيام بمهمة في البلاد كانت في منتصف العام 1985م عندما أُختير ليدرّب طيارين من القوات الجوية السودانية على قيادة طائرات F-5 التي تسلّمها السودان من الولاياتالمتحدة. كانت علاقة الولاياتالمتحدة بالحكومة السودانية قد شهدت تحسناً مضطرداً منذ أواخر السبعينيات، ذلك بسبب رؤيتها للسودان كلاعب مهم في مكافحة المد الشيوعي الذي سيطر على إثيوبيا بعد وصول مانغستو للسلطة، وكذلك بسبب مساندة الرئيس نميري لإتفاق "كامب ديفيد"، إلى جانب دور حكومة نميري في تسهيل نقل اليهود الفلاشا. فطائرات الإف 5 كانت تتماشى مع تلك الرؤية التي هدفت للحد من طموحات القذافي المدعوم سوفيتياً ومحاصرة حركة قرنق الوليدة في جنوب السودان بتوجهاتها الإشتراكية، والعون الذي تجده الحركة من نظام مانغستو. يقول غريشن في مذكراته التي صدرت في أغسطس 2016م بالولاياتالمتحدة تحت عنوان " مسار الرحلة- إبن أفريقيا يصبح مقاتلاً دبلوماسياً Flight Path: Son of Africa to Warrior-Diplomat"، وهي المذكرات التي سنستعرض في هذه المقالة ما ورد عن السودان فيها، إنه وزوجته جودي كانا يتطلعان بحماس إلى مهمته في السودان، حيث خططا لنقل عائلتهما إلى أمدرمان لتتاح لهم زيارة الأماكن التاريخية بالمدينة والتجول في أسواق الخرطوم. بيد أن الإطاحة بنميري وإمساك سوار الدهب بزمام السلطة جعل الولاياتالمتحدة ترى في النظام الجديد قرباً من الإتحاد السوفياتي، وأن البلاد قد أصبحت قاعدة لليبيا وغيرها من العناصر الإرهابية المعروفة، على حد تعبير غريشن، فتم إلغاء مهمته وطلب إعادة أغراضه المنزلية التي كانت قد أبحرت في طريقها للسودان. المذكرات تقع في نحو 330 صفحة من القطع المتوسط وتتكون من إثنين وعشرين فصلاً تغطي مسار حياته منذ ميلاده عام 1951 بولاية إلينوي الأميركية، وطفولته بما كان يُعرف بالكونغو البلجيكية، حيث كان والداه يعملان في إحدى البعثات التبشيرية المسيحية، ولجوئه مع والديه إلى يوغندا بعد الإضطرابات التي أعقبت إستقلال الكونغو، ثم انتقال العائلة إلى وسط كينيا، مروراً بالتحاقه بجامعة روتجرز بنيوجرسي لدراسة الهندسة الميكانيكية وإلتحاقه بقوات الجو الأميركية وعمله في مجال التدريب بسلاح الجو، وكذلك التنقل بين عدد من القواعد الأميركية بالخارج في كينيا وإزمير بتركيا ورامشتاين بألمانيا والخُبر بالمملكة العربية السعودية خلال الفترة التي تم فيها الهجوم على هذه القاعدة، وإشرافه، بعد ترقيته لرتبة اللواء، على مهام قتالية قام بها سلاح الجو الأميركي خلال الحرب على العراق في 2003، وإنتهاءً بتقاعده في العام 2006، ومرافقته السناتور آنذاك باراك أوباما في رحلة إلى أفريقيا كانت إحدى محطاتها زيارة مخيم للاجئين من دارفور بشرق تشاد، وتعيينه في 2009م، بعد إنتخاب أوباما رئيساً، مبعوثا خاصاً لحكومته إلى السودان، ثم تعيينه في فبراير 2011 سفيراً لبلاده لدى كينيا وبقائه في المنصب حتى يونيو 2012. وقد احتلت مهمته في السودان كمبعوث خاص الفصلين الثامن عشر والتاسع عشر. يقول غريشن أن وظيفته الجديدة كمبعوث خاص للولايات المتحدة إلى السودان وضعت تحت ولايته كل ما يتعلق بالشأن السوداني داخلياً وخارجياً، وعلى الرغم من أن مكتبه كان يقع داخل قسم الشئون الأفريقية بوزارة الخارجية الأميركية، إلا أن المكتب كان بمثابة جزيرة مستقلة داخل القسم الذي يُعنى بشئون جميع بلدان أفريقيا جنوب الصحراء، عدا السودان! ويضيف بأنه وفريقه من وزارة الخارجية قد عكفوا على وضع إستراتيجية لعملهم تتضمّن عدداً من المحفزات والكوابح من أجل تحقيق أهداف ثلاثة: أولاً: وضع حد نهائي للنزاع في دارفور ووقف الإنتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان هناك. ثانياً: مساعدة الشمال والجنوب على تطبيق إتفاق السلام الشامل (CPA) بما يفضي لسودان آمن ومتحد بعد العام 2011م، أو تحقيق إنتقال منظّم لدولتين منفصلتين قابلتين للحياة وتعيشان بسلام مع بعضهما البعض. ثالثاً: منع السودان من أن يكون ملاذاً للإرهابيين ليساهم في أمن واستقرار القارة الأفريقية. وضع غريشن ما أسماها ب "24 معجزة متعاقبة- 24 Consecutive Miracles" رأى أنه يحتاجها لعمله في السودان حتى تُحل قضية دارفور ويُطبّق إتفاق السلام، وقد أطلق عليها تعبير المعجزات لإحساسه بصعوبة تحقيقها والصعوبات التي تكتنفها، وربما يكون لتنشئته المسيحية التي يكثر فيها إستخدام هذا المصطلح دوراً في إختياره له، مثل ما لمهنته كطيار دور في إختياره للعنوان الرئيس للكتاب. يمكن إجمال هذه المعجزات في؛ إقامة علاقة بناءة بين بلاده والسودان، ضمان دعم السودان للحرب العالمية ضد الإرهاب وسيطرة البلاد على عبور المقاتلين الأجانب، تحسين وصول المنظمات الإنسانية وقوات اليوناميد إلى دارفور والتوصل لوقف لإطلاق النار في الإقليم وتوحيد الحركات المسلحة والإنصات لصوت القبائل العربية بدارفور ومنظمات المجتمع المدني ليكون لهم دوراً في العملية السلمية ودعم مفاوضات الدوحة والحصول على مباركة دول الجوار السوداني على عملية سلام دارفور، ترسيم حدود الشمال والجنوب وفقاً لمعطيات 1956م وترسيم حدود أبيي على النحو الوارد في إتفاقية السلام وحث أطراف الإتفاقية على قبول نتيجة التعداد السكاني وعدد مقاعد البرلمان ودعم المشورة الشعبية في جنوب كردفان والنيل الأزرق كما ورد في الإتفاقية، تشجيع إجازة التشريعات اللازمة لإجراء إنتخابات حرة ونزيهة ودعم مفوضية الإنتخابات للوصول لتلك الغاية، تهيئة الجنوب لاحتمال استقلاله من خلال مخاطبة قضايا الجنسية واستعمال عملة موحدة أو عملة جديدة بعد الإستقلال وإعادة التفاوض حول الإتفاقيات والمعاهدات الدولية وقسمة الأصول والديون واستعمال خط أنابيب النفط السوداني لنقل نفط الجنوب ... وغيرها من القضايا. يرى غريشن أنه مهما يكن من رأي الولاياتالمتحدة في حكومة الرئيس البشير، فإن نجاح مهمته في السودان يتطلب منه أن يقيم علاقة عمل جيدة مع هذه الحكومة. وبما أن تعيينه جاء بعد أيام من طرد الحكومة لثلاث عشر منظمة كانت تعمل بدارفور ومناطق أخرى، فقد حرص في لقائه الأول بالوفد الحكومي الذي كان يقوده د. غازي صلاح الدين، الذي يكن له غريشن تقديراً كبيراً كما ورد بالكتاب، على التأكيد على احترامهم الكامل لحق السودان السيادي وحق الرئيس البشير السياسي في التقرير بشأن من يعمل أو لا يعمل بالبلاد، وأردف بأن طرد تلك المنظمات سيعرض ملايين السودانيين للخطر ويزيد من عزلة السودان أمام المجتمع الدولي، راجياً السماح بقدوم منظمات جديدة لملء الفراغ الناجم عن طرد تلك المنظمات. هذه النبرة المتفهّمة والواقعية من المبعوث الأميركي حدت بالوفد الحكومي للقبول بمقترح المنظمات الجديدة، وجرى، بالنتيجة، تنفيذ أغلب المشروعات التي كانت مدرجة ضمن خطط المنظمات المطرودة. من بين الأمثلة العديدة التي حفِل بها كتاب سكوت غريشن والتي تدلل على نهجه البراغماتي في التعاطي مع السودان، اخترتُ حادثة وقعت في العام 2010م، حيث ذكر بأنه نجح بعد خمسة أشهر من الدبلوماسية المكوكية في إقناع السودان وتشاد بإنهاء حرب الوكالة التي كانت تدور بين البلدين وتشكيل قوة مشتركة لمراقبة الحدود لما لذلك من فائدة مباشرة على الأحوال بدارفور وإستقرار الأوضاع بالإقليم. اقتنع الرئيس إدريس ديبي بالحضور للخرطوم في فبراير 2010م للتوقيع على إتفاقية عدم إعتداء، وتقرر أن يقوم الرئيس البشير بزيارة إلى انجمينا ليوقّع على الإتفاقية من هناك. سافر غريشن إلى انجمينا قبل أيام من توقيت زيارة الرئيس البشير، وخلال استراحته بالفندق تلقّى مكالمة من سيدة موضع ثقته في واشنطن أخبرته فيها بأن مجموعة ممن أسماهم "بالعقائديين أو أصحاب المواقف المسبقة" بوزارة الخارجية والبيت الأبيض قد أرسلوا تحذيراً شديد اللهجة لتشاد بضرورة القبض على الرئيس البشير وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية! يضيف غريشن بأنه عندما قرأ نص البرقية الدبلوماسية المرسلة من واشنطن إلى السفارة الأميركية بأنجمينا حول هذا الشأن، غلى الدم في عروقه من فرط الإحباط، وشعر بالسخرية من موقف بلاده التي ترفض الإعتراف بالمحكمة في ذات الأثناء التي يحاول فيها بعض نخبة واشنطن توظيفها لتقويض جهوده الدبلوماسية التي جعلت فرص السلام بين البلدين تلوح في الأفق.. أرسل غريشن بريداً إلكترونياً للبيت الأبيض أوجز فيه مخاطر هذه الخطوة على أمن واستقرار دارفور، وتمت زيارة الرئيس البشير إلى تشاد كما كان مخططاً لها. يشير غريشن إلى أن الأسلوب الذي أختطه لعمله في السودان كثيراً ما تقاطع مع مواقف بعض أعضاء الكونغرس وتنظيمات النشطاء وبعض العاملين بإدارة الرئيس أوباما. من أمثلة هذه التقاطعات: (1) استدعائه للحضور فوراً إلى واشنطن حينما كان يعقد إجتماعاً مع عدد من التنظيمات السياسية السودانية بالخرطوم قبيل انتخابات العام 2010م، وأبلغه من نقل له قرار الإستدعاء هاتفياً بأن سبب ذلك هو "إقترابه كثيراً من قضايا السودان".. لم يجد غريشن بواشنطن إجابة على أسباب هذا الإستدعاء، فطرح على نفسه عدة تساؤلات من بينها؛ هل يعتقد البعض في واشنطن أن جهوده لإنجاح الإنتخابات المرتقبة في السودان قد تُفسّر على أنها إعترافاً بإنتخاب البشير رئيساً، كما كان متوقعاً؟ (2) عدم اتفاقه مع التوصيف الذي كان يروّج له بعض أعضاء إدارة أوباما، خاصةً سوزان رايس وسامانثا باور، من أن الأوضاع بدارفور تمثل "إبادة متواصلة"، ويقول بأنه بعد تعيينه قام بالإطّلاع على تقارير البعثة المشتركة للأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي بدارفور (يوناميد) ووجد أن هناك إنحساراً كبيراً في عدد الضحايا بالمقارنة مع ما كان في العام 2005م، وذات الأمر أكّده خبراء للإستخبارات الأميركية، كما لا توجد دولة أخرى أطلقت على ما يدور بدارفور لفظ الإبادة سوى الولاياتالمتحدة. (3) خيبة أمله وحزنه من عدم رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب كحافز على الأفعال الإيجابية التي قام بها السودان في مجال مكافحة الإرهاب، ويقول بأنه ومن خلال توصله مع جهاز الأمن والمخابرات السوداني تبدّى له بشكل جلي مقدار المساعدة التي يقدمها السودان للولايات المتحدة وغيرها من الدول في هذا الصدد، ويضيف بأن عدم رفع اسم السودان من القائمة بعد إعترافه بإنفصال الجنوب يتوّج سلسلة من التراجعات الأميركية عن وعود سابقة في الخصوص، وهي وعود قطعها في أعوام مختلفة كل من جون دانفورث، روبرت زوليك، أندرو ناتسيوس، ريتشارد ويليامسون، جينداي فريزر، والسيناتور آنذاك جون كيري، وزير الخارجية الحالي، في نوفمير 2010م. بعد مهمته في السودان عُيّن سكوت غريشن سفيراً لبلاده في كينيا حتي يونيو 2012م، كما سلفت الإشارة، وبعد إنهاء مهمته سفيراً فضّل البقاء في كينيا منشئاً شركة خاصة يبتغي بها "إحداث فرق في إقليم جغرافي أحبه"، أو كما قال.