طَوى الجَزيرَةَ حَتّى جاءَني خَبَرٌ .. فَزِعتُ فيهِ بِآمالي إِلى الكَذِبِ حَتّى إِذا لَم يَدَع لي صِدقُهُ أَمَلاً .. شَرِقتُ بِالدَمعِ حَتّى كادَ يَشرَقُ بي "أبو الطيب المتنبي" الثلاثاء، التاسع من فبراير العام 2016، كانت الساعة تُشير وقتها إلى الواحدة وخمس دقائق ظهراً عندما رن جرس هاتفي المحمول، كان والدي -متعه الله بالصحة والعافية- هو على الخط الأخر. لم أستبِن شيئاً من حديثه بادئ الأمر. كان الصوت يغلب عليه البكاء. لم يرِد بذهني مُطلقاً أنَّ الصوت صادر عنه. إلا أنني، سرعان ما تبينته. فأوجستُ في نفسي خيفة، فالصوت صوته. فماذا هناك إذن؟! كان مبتدأ حديثه، لؤي، تاج مات. رغم أنَّ حديث أبي تلقَّفتهُ أُذني حينها، إلاَّ أنني تعمّدت عدم تصديق اُذني، وذلك بسؤال أبي مرة أخرى مُستفسراً. فأعاد ما قاله بالحرف. وأعدت أنا بدوري ما قلته، لعل هناك ما أصاب أذني فلم يتناهى الخبرُ إلى مسامعي كما هو. فسألته مرة أخرى، أبوي في شنو؟ فجاء صوته مرة اُخرى، وبذات العبارات وفي تأكيد قاطع، تاج مات تاج مات يا لؤي. وانقطع كلامه وارتفع الصوت يبكي شجوه. يا الله، ما أعظم الفقد. وكم هي مُوجعة، مرارة الفقد. فأنا لم أتذوق من قبل الشعور والاحساس الشخصي بالفقد. فما أمَّرُه، وما أوجَّعُه من فقد. وإن كان هذا هو حالي وحال إخوتي، فكيف هو حال والدنا ووالدتنا، وكيف حال لياليهم. نسأل الله أن يلزم والدنا ووالدتنا وإيانا الصبر ويتغمد فقيدنا أخانا "تاج الختم" بواسع رحمته وأن يجعل مثواه الجنة. يا كوكباً ما كان أقصّر عمرَهُ .. وكذا تكون كواكبُ الأسحارِ، كما قال أحد الشعراء قديما. بعد أن صعقني الخبر، جلست وشريط من ذكريات شتى مرت سريعاً أمام ناظري. رحلة كفاحك، أحاديثك، ضحكاتك، عتابك، جلساتنا برفقة أبي وأمي وإخوتي -متعهم الله بالصحة والعافية- مُتشاركين وجبة طعام أو كوباً من الشاي، مشاورينا سويا، نقاشاتنا حول قضايانا الشخصية، حوارتنا حول قضايا الوطن والمركز والهامش، رؤاك الاقتصادية، آخر عهدي بك، ووداعك لي وآخر وصاياك. نعم، الموت حق. وهو سبيل الأولين والأخرين، فهذه سنة الحياة. إلاّ أنَّ، رحيلك المُفاجئ أصابني -كما أصاب الجميع- بالصدمة. صدمة هزَّت كياننا، ويصعب علينا تجاوزها. رغم إيماننا بمشيئة (الله) العليّ القدير وبمُحكم تنزيله الذي قال فيه ((...إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) سورة نوح لم تكن مجرد أخ، كنت أكثر من ذلك. كنت إنساناً بكل ما تحمله الكلمة من معنى. كنت كريماً، تُفيضُ رقة وحنانا. مرات عدة، الوالد والوالدة كانا يُحدثانك لتهتم بأمورك وتكمل نصف دينك. ولكنك، كنت لا تُلقي بالاً لذلك. فسعادتك كانت تكمُن في سعادة مَن هُم حولك. كم كنت تُؤثر على نفسك، في سبيل إسعادنا، ولتوفير متطلبات الحياة اليومية في سبيل استقرارنا الأسري. تحملت مسؤولياتنا، نحن اخوتك، وأنت طالب لم تبلغ الثامنة عشر من عمرك. وذلك، عندما ألحقك والدنا مُمرضاً بمستشفى فريق، بمسقط رأسنا. فكنت أهلاً للمسؤولية، صارعت وكافحت من أجل توفير لقمة عيش شريفة لإسرتك. "التاج" -كما يطلق عليه رفاقه دربه وزملاؤه- تشكَّلَ وعيّهُ السياسي في جامعة الخرطوم. وإنخرط في صفوف تنظيم مؤتمر الطلاب المستقلين، وهو يحلم بوطن لكل الناس، لا خاصة لا عامة. وعندما استردت جامعة الخرطوم منبرها النقابي "كوسو" في انتخابات 2002 - 2003 نال عضوية المجلس الأربعيني للاتحاد جامعة الخرطوم، وتبوأ مقعده في اللجنة التنفيذية للاتحاد بوصفه السكرتير الأكاديمي للاتحاد. وواصل عقب تخرجه نشاطه السياسي بحزب المؤتمر السوداني عضواً بالمجلس المركزي للحزب، غارساً بذور الوعي برفقة رفاق دربه، حاملاً هموم وطنه، وحالماً بوطن خير ديمقراطي. هاتفته قبل رحيله بأيام، أخبرني بإنتهاء إجراءات الإقامة، فقد كان عقد العزم وانتوى الاغتراب بأرض الحرمين. إلاّ أنَّ، تلك الإجراءات أخذت منه أكثر من عام. حتى أنَّ مدير وكالة السفر، أخبرني عندما ذهبت إليه لإلغاء الإجراءات واستلام جواز سفر شقيقي، قال لي والدموع تُغالب عينه، لم يحدُث قط أن أخذت إجراءات سفر شخص لديه كل هذه الفترة الطويلة. ثم أردف قائلاً، رغم تأخر الإجراءات وطول أمدها، إلا أنَّ الراحل لم يحدُث قط أن ضَّجر بالأمر. فقد كان هادئا في كل أحاديثه معه. عندما هاتفته قبل رحيله، كان قد أخبرني بأنَّه لن يُباشر إجراءات الحجز والسفر، إلاّ بعد أن تُقارب مدة تأشيرته على الانتهاء. قال إنّه ينوي أن يقضي كل الأيام المتبقية لديه في السُّودان. تطرقنا لأمورنا الخاصة، وأخبرته بأنَّ اجازتي السنوية ستكون في شهر مارس. قلت له "إن شاء الله بنتلاقى قبل تسافر. قال لي ضاحكاً، خلاص تجي تحضر عرسي". ولكن، إرادة الله التي لا راد لها، شاءت أن لا نلتقي. وأن أشد رحالي إلى الوطن قبل موعدي المُحدد، وأن أحضر عزاءك لا فرحك، وأن أتلقى التعازي لا التهنئات. أخي، إن العين لتدمع والقلب ليحزن وإنا لفراقك يا أخي "تاج الختم" لمحزونون، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا، إنا لله وإنا إليه راجعون. ونسأل (الله) أن يجمعنا بك في مستقر رحمته. رحلت عن دنيانا. ولكن، ستبقى خالدا فينا، بحميد أخلاقك، كريم خصالك، بإيمانك بمبادئك، بجسام تضحياتك وبإيثارك على نفسك. سلامٌ عليك في الخالدين.. أخوك/ لؤي عبدالغفور تاج الختم الخميس 9 فبراير 2017 عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.