عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. (1) في يوم واحد قرأتُ تصريحاً واستمعتُ إلى جزء من مقابلة تلفزيونية كان الرابط بينهما شئ واحد؛ عبثية إنشاء وإدارة الأحزاب السياسية السياسة في السودان. التصريح أدلى به مسئول رفيع في هيئة شورى حزب المؤتمر الوطني وقال فيه بأن حكومة الوفاق الوطني ستشهد أوسع مشاركة للأحزاب السياسية في تاريخ البلاد، حيث يشارك فيها 84 حزباً و37 حركة مسلحة! ليطمئن قلبي على سلامة نقل الصحيفة للأرقام الواردة في التصريح دخلتُ إلى موقع الأمانة العامة للحوار الوطني على الشبكة العنكبوتية فوجدتُ أن الأرقام متقاربة وما يظهر من تفاوت قليل ربما يرجع لعدم تحديث موقع الأمانة الإلكتروني. أما المقابلة التلفزيونية فقد جرى فيها استضافة قيادية تقول أنها تقود تياراً إصلاحياً داخل إحدى الأحزاب المنقسمة عن حزب سياسي عريق. كالت القيادية من الإتهامات لزملائها في الحزب ما كالت، وشنّعت بهم، وألمحت إلى اتهامات تخدش نزاهتهم المالية، ولم يمنعها عن الكلام المباح سوى عطب فني ألمّ باستديو القناة التلفزيونية أثناء المقابلة. التصريح والمقابلة أعادا سؤال طالما قفز إلى ذهني من وقت لآخر: هل يحتاج السودان إلى كل هذه الأحزاب والتنظيمات السياسية بكل ما يعتورها من ضعف وتشظٍ وصراع بين قياداتها مدفوع، في غالب الأحوال، بالطموحات والمآرب الشخصية؟ (2) من نافلة القول أن الأحزاب السياسية مهمة للحياة العامة في أي من البلدان، فهي إحدى المؤسسات المفصلية اللازمة للمسار والتطور الديمقراطي، وعبرها تتحقق المشاركة السياسية بتقديمها خيارات متعددة لطريقة الحكم للجماهير، كما تلعب دوراً توعوياً مهماً في وضع وتنفيذ السياسات العامة. وعندما تكون هذه الأحزاب في المعارضة فهي تمثّل رقيباً مهماً على عمل الحكومة، وحينما ينضوي المواطن تحت لوائها فإنه بذلك يمارس حقاً سياسياً كفلته له أغلب الدساتير إلى جانب شِرعة حقوق الإنسان الدولية، كما يوفر هذا الإنضواء للمواطن الفرصة للتقرير بشأن قضايا الحكم واختيار الحكّام ومحاسبتهم. ذلك هو المثال، أما واقع الأحزاب السياسية في السودان فشئ آخر. (3) لما يزيد عن المائتين عاماً سيطر حزبان فقط على الحياة السياسية الأميركية، وهما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، وتعتبر بريطانيا كذلك نموذجاً كلاسيكياً للثنائية الحزبية في الديمقراطية البرلمانية مع استقرار دور حزبي المحافظين والعمال في تداول السلطة منذ عشرينيات القرن الماضي، كما تتجه الهند التي تُعتبر أكبر ديمقراطية في العالم بحسب حجم الناخبين إلى أن تكون محكومة بنظام الحزبين بسبب سيطرة حزبي المؤتمر وبهاراتيا جاناتا على المشهد السياسي طوال السنوات الماضية، وتكفي إلقاء نظرة على تركيبة البرلمان في جنوب أفريقيا لإعطاء الإنطباع بأن البلاد في طريقها لنظام الثنائية الحزبية بسبب هيمنة حزبي المؤتمر الوطني الأفريقي والتحالف الديمقراطي على أغلبية مقاعد البرلمان.. هذه أمثلة من أربع قارات مختلفة لدول لديها تجارب ناجحة ومستقرة للعمل السياسي بوجود حزبين فقط يستقطبان اهتمام جل الناخبين، مع وجود بضعة أحزاب صغيرة ذات قدرات متواضعة على الفعل السياسي في جميع تلك الدول. معلوم بالطبع أن لكل دولة ظروف مختلفة تحكم تطورها السياسي والذي يختلف، بالضرورة، عن تجارب الدول الأخرى، ولكن إن كانت هناك تجارب حزبية أصابت نجاحاً في أماكن مختلفة فالأدعى ألاّ نحاول إعادة إختراع العجلة في السودان. (4) لا أعلم على وجه الدقة عدد الأحزاب السياسية في السودان، المسجّل منها وغير المسجّل، ولم أعثر على موقع إلكتروني لمجلس شؤون الأحزاب السياسية يعين على معرفة عدد الأحزاب المقيّدة في سجلات المجلس، ولكن تصريح المسئول بحزب المؤتمر الوطني الذي ورد في صدر هذه المقالة يعطي فكرة عن العدد. من جميع تلك الأحزاب تمكّن 23 حزباً فقط من خوض الإنتخابات الأخيرة في العام 2015م.. ضوابط المشاركة في تلك الانتخابات كان تقتضي أن يملأ الحزب استمارة أعدتها المفوضية القومية للانتخابات تتضمن اسم الحزب وأسماء وتوقيعات 85 من عضويته.. نظرتُ في إحدى الاستمارات لحزب جذبني عنوانه البرّاق لمعرفة بعض قياداته، هالني أن الاستمارة الموجودة بموقع المفوضية الإلكتروني بدت لعيني المجردة وكأن شخص واحد كتبها على عجل ووقّع أمام جميع الأسماء الواردة فيها! ولم تسعفني ذاكرتي، بالطبع، لمعرفة أي من الأسماء الواردة فيها.. أقترح على المفوضية القومية للانتخابات أن تأخذ في المرات القادمة هذه الاستمارات إلى معامل الأبحاث الجنائية للتحقق من صحة التوقيعات الواردة فيها حتى لا يدخل إلى سدة المواقع السياسية من يستحق أن يتبوأ مقعداً في السجن بتهمة التزوير. (5) إن إلقاء نظرة على تاريخ نتائج الانتخابات في السودان تكفي للتدليل على الأحزاب ذات البرامج والعضوية الحقيقة وتلك التي لا تتعدى أن تكون مجرد أوراق مهترئة في حقيبة شخص أعيته تصاريف الحياة فوجد من الأسهل أن يكون سياسياً، أو "كنتين" بأطراف العاصمة اتخذه آخر مكاناً يحشد منه موسمياً بضع عشرات يضعهم تحت قيظ خيمة ليقيم بهم "مؤتمراً عاماً". أول إنتخابات برلمانية في السودان كانت في العام 1953م، وقد شاركت فيها خمسة أحزاب سياسية هي الحزب الوطني الإتحادي، حزب الأمة، كتلة الجنوب، الحزب الجمهوري الإشتراكي، الجبهة المعادية للإستعمار "الواجهة التي كان يعمل خلفها الحزب الشيوعي". فاز الحزب الوطني الإتحادي بواحد وخمسين مقعداً من جملة مقاعد البرلمان البالغة 91، وبذلك حصل على أغلبية مكّنته من تشكيل الحكومة منفرداً. في الانتخابات البرلمانية التي جرت في العام 1958م شاركت ستة أحزاب، وحصل حزب الأمة فيها على 63 مقعدا،ً حزب الشعب الديمقراطي 26 مقعداً، الحزب الوطنى الإتحادي 44 مقعدا،ً وحزب الأحرار الجنوبي على 40 مقعداً، ولأن أي من تلك الأحزاب لم يحصل على أغلبية تؤهله للحكم بمفرده فقد شهدت البلاد ميلاد أول حكومة إئتلافية. نفس عدد الأحزاب شارك في الانتخابات البرلمانية للعام 1965م التي حاز فيها الحزب الوطني الإتحادي على 73 مقعداُ، الأمة 92 مقعداً، جبهة الميثاق الإسلامي 5 مقاعد، الحزب الشيوعي السوداني 11 مقعداً، مؤتمر البجة 10 مقاعد. خاضت سبعة أحزاب انتخابات العام 1968م عقب الانقسام الذي شهده حزب الأمة (الصادق- الهادي)، هذه الأحزاب هي: الحزب الإتحادي الديمقراطي الذي نشأ نتيجة لاندماج الحزب الوطنى الإتحادي مع حزب الشعب الديمقراطي (101) مقعداً، حزب الأمة بجناحيه (72) مقعداً، وتوزعت بقية المقاعد على أحزاب سانو، جبهة الميثاق الإسلامي، مؤتمر البجة، وجبهة الجنوب. أما الانتخابات البرلمانية الخامسة والتي جرت في العام 1986م فقد خاضتها سبعة أحزاب، هي: حزب الأمة، الإتحادي الديمقراطي، الجبهة الإسلامية القومية، الحزب القومي السوداني، حزب البعث العربي الإشتراكي، المؤتمر السوداني الأفريقي، الحزب الشيوعي السوداني، لم يحصل أي حزب منها على الأغلبية فدخل بعضها في حكومات إئتلافية إستمرت إلى حين وصول حكومة الإنقاذ للسلطة في 1989م (مصدر هذه المعلومات موقع مفوضية الانتخابات على الانترنت). من أبرز المعالم الانتخابية خلال حكم الإنقاذ هي انتخابات أبريل 2010 وأبريل 2015م. إنتخابات العام 2015م جاءت بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل، وقد خاض غمارها إثني عشر حزباً، هي: المؤتمر الوطني الذي حصل على 322 مقعداً، الحركة الشعبية لتحرير السودان 99 مقعداً، الاتحادي الديمقراطي 4 مقاعد، المؤتمر الشعبي 4 مقاعد، الأمة الفيدرالي 3 مقاعد، الإتحادي الديمقراطي الأصل مقعدين، الأمة الإصلاح والتنمية مقعدين، الحركة الشعبية التغيير الديمقراطي مقعدين، الإخوان المسلمون مقعد واحد، الأمة مقعد واحد، الأمة الوطني مقعد واحد، الأمة القيادة الجماعية مقعد واحد، مستقلون 3 مقاعد. أما انتخابات أبريل 2015م فقد شارك فيها ستة عشر حزباً: المؤتمر الوطني الذي حاز على 323 مقعداً، الاتحادي الديمقراطي الأصل 25 مقعداً، مستقلون 19 مقعداً، الاتحادي الديمقراطي "المسجل" 15 مقعداً، الأمة الفيدرالي 7 مقاعد، الأمة القيادة الجماعية 6 مقاعد، الإصلاح والتنمية 5 مقاعد، التحرير والعدالة القومي 5 مقاعد، الأمة الوطني 3 مقاعد، الأمة المتحد 4 مقاعد، التحرير والعدالة مقعدان، والرباط القومي مقعدان. وحاز على مقعد واحد كل من أحزاب الحقيقة الفيدرالي، حركة القوى الشعبية والدستور، الشرق للعدالة والتنمية، اتحاد عام شمال وجنوب الفونج، والحركة الشعبية. من خلال الإستعراض أعلاه يمكن تصنيف الأحزاب السياسية السودانية إلى ثلاث فئات: أحزاب تأريخية (الأمة والإتحادي)، أحزاب إيديلوجية (المؤتمر الوطني بمسمياته التاريخية المختلفة، الإخوان المسلمون، الشيوعيون، والبعث)، أحزاب مطلبية إقليمية (الأحزاب الجنوبية قبل انفصال الجنوب، مؤتمر البجة، الحزب القومي السوداني، الحركة الشعبية، وحركة التحرير والعدالة)، ربما الحزب الوحيد الذي يخرج عن سياق ذلك التصنيف هو حزب المؤتمر السوداني، وتحتاج تجربته للنظر من قِبل المهتمين للإستفادة من مواطن ضعفها وقوتها. هذ التصنيف يمكن الإعتماد عليه في دمج أغلب هذه الأحزاب في أحزاب كبيرة لأن الشعارات واللافتات الفكرية التي ترفعها واحدة، وذلك يتطلب، لا محالة، تجاوز هذه الأحزاب للأسباب التي دفعتها إلى التناسل في بادئ الأمر، وهي أسباب لا تخرج عن أزمة القيادة في بعضها، الطموحات الشخصية لدى قيادات البعض الآخر من الأحزاب، وغياب ثقافة العمل الجماعي في مؤسسات هي بطبيعتها جماعية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن الدستور القادم يجب أن يحكم هذه المسألة من خلال الاستعانة بالتجارب العالمية في هذا المجال، وهي تجارب سيسهم توطينها في معالجة إشكالية التكاثر العبثي للأحزاب السياسية في السودان. (6) في السياق الدولي، نجد أن العديد من الدول عمدت إلى وضع حد لظاهرة تكاثر الأحزاب السياسية من خلال اعتمادها لآلية تُعرف بالنصاب التصويتي (Electoral Threshold)، وتعني وجوب أن يحصل الحزب السياسي على نسبة معينة من الأصوات، على المستوى القومي أو الإقليمي، حتى يتمكن من الحصول على نصيب من المقاعد في الجهاز التشريعي.. وبذلك فإن الحزب الصغير الذي لا يتمكن من تحقيق تلك النسبة سيجد نفسه مضطراً إما إلى التحالف مع الأحزاب ذات البرامج والتوجهات الشبيهة أو التواري كلياً عن ساحة العمل السياسي. في تركيا، على سبيل المثال، تبلغ تلك النسبة 10%، وفي ألمانيا 5%، والسويد 4%. وقد شهدت انتخابات العام 2013م في ألمانيا خسارة الحزب الديمقراطي الحر لتمثيله البرلماني لأول مرة منذ 1949م لأنه حصل على نسبة 4.8% من الأصوات وهي أقل ب 2.% من نسبة النصاب التصويتي المطلوب في البلاد. للهند تجربة أخرى، فالأحزاب هناك تنقسم لأحزاب قومية- وعددها ستة فقط في بلد متعدد الأعراق والأديان ويبلغ عدد سكانه مليار وثلاثمائة مليون نسمة- وأخرى ولائية أو إقليمية، وحتى يصبح الحزب مؤهلاً في الهند لنيل لقب حزب قومي فإن المطلوب حصوله على 6% من جملة الأصوات الصحيحة في أربعة أو أكثر من الولايات بالاضافة لفوزه بما لا يقل عن أربعة مقاعد في مجلس الشعب الهندي من ولاية واحدة أو عدد من الولايات. الأحزاب هي العمود الفقري لسلامة العملية السياسية في أي بلد وبفسادها يصعب تصور حياة سياسية صحية، وإن كان ثمة درس على المشتغلين بالعمل السياسي في السودان تعلّمه من تجارب الإنقلابات العسكرية، فهو أن الشعب السوداني لم يأسف كثيراً على ذهاب حكم الأحزاب بتلك الانقلابات.. ألا يدعو ذلك وحده لضرورة التفكير في الإصلاح الحزبي؟