عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. احتفلت الدول الاوروبية في اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس 2017 بحدث سياسي واقتصادي واجتماعي مهم، وهو الاحتفال بمرور ستين عاماً علي معاهدة روما التي تم التوقيع عليها في 25مارس عام 1957 من قبل ست دول اوروبية وهي فرنسا والمانيا الاتحادية وايطاليا وهولندا وبلجيكا ولكسمبورج. وضعت هذه الاتفاقية اساساً قوياً ساهم في تكوين اقوى اتحاد بين الدول عرف فيما بعد بالاتحاد الاوروبي. كانت الاتفاقية هي نقطة البداية لقيام السوق الاوروبية المشتركة والمجموعة الاوروبية للطاقة الذرية والتي اندمجت لاحقا مع اتحاد الفحم والصلب الاوروبي في منظومة اوروبية واحدة عرفت بالمجموعة الاوروبية. استطاعت هذه المجموعة تبني سياسات ساعدت في تحقيق اندماج لعدد من القطاعات بين الدول الاوروبية، وكانت اهمها السياسات الزراعية المشتركة لتغطية العجز في الامن الغذائي الذي تعرض لهزات عنيفة نتيجة لقصور الامكانيات وتضاؤل الموارد وذلك اثناء وعقب الحرب العالمية الثانية. كان نجاح هذه السياسات دافعاً وحافزاً للعديد من الدول الاوروبية الاخرى للانضمام للمجموعة الاوروبية التي بلغ عدد الدول المنضوية تحت لوائها 12 دولة، منها بريطانيا وايرلندا والدنمارك والبرتغال، واستطاعت هذه المجموعة عن طريق تبني سياسات تكاملية ادماجية توافقية للعديد من القطاعات ان تحقق نجاححات واضحة دفعت بمعدلات النمو الاقتصادي الي التصاعد خلال العقود الثلاثة التي اعقبت التوقيع علي اتفاقية روما. توالت المعطيات الجيوسياسية والاقتصادية وشواهد الممارسة الايجابية للسياسات التكاملية، وباتت الدول الاوروبية اكثر قناعة أن الوحدة والتضامن أفضل من الانزواء والفردانية، خاصة في ظل ضرورات سياسية واقتصادية فرضتها ديناميكيات الحرب الباردة. تسارعت الخطى بعد ذلك لانشاء المفوضية الاوروبية في العام 1985، والتي وضعت خطة متكاملة لاقامة سوق اوروبية موحدة بحلول 31 ديسمبر 1992، وذلك بعد التخلص من كافة القيود للتهيئة لقيام الوحدة الاوروبية، وتمثلت أهم الأهداف في تحقيق الحريات الاربع وهي حرية انتقال الاشخاص والبضائع والخدمات ورؤس الاموال، وتعميق التعاون في مجالات السياسية الخارجية والمجالات الاخرى. كان التوقيع علي معاهدة ماسترخت في 7 فبراير عام 1992 بمثابة حدث دولي هام، حيث حلت محل اتفاقية روما، وانشأت الاتحاد الاوروبي وتكون بذلك قد وضعت الاسس النظرية لجدليات التكامل السياسي والاقتصادي علي ارض الواقع بتعديلها لنمط التعاون الاوروبي في اطار المجموعة الاوروبية الي اتخاذ الخطوات اللازمة لخلق الوحدة الاوروبية والاسراع بوتيرتها. حددت الاتفاقية عشرين مجالاً مشتركاً لتحقيق الوحدة الاوروبية. وأصبحت مؤسسة الاتحاد الاوروبي مثالاً تصبو اليه كافة الكيانات الاقليمة وشبه الاقليمية ذات القواسم والأهداف والمصير المشترك، مما جعل منظري السياسة الخارجية في حقبة مابعد الحرب الباردة يستنبطون خلاصات نظرية بأن اهم تداعيات انتهاء الحرب الباردة هو جنوح الدول الصناعية الكبرى للاندماج والتكامل، في الوقت الذي أصبحت فيه عوامل الفرقة والانقسام هي السائدة في الدول النامية، وأن لذلك بالطبع دواعي ومسببات عديدة ليست موضوع مقالنا اليوم. تحتفل اوروبا هذا الشهر وبالعاصمة الايطالية روما بالذكرى الستين لأول معاهدة منشئة لكيانها الاوروبي، في ظل تحديات حقيقة ماثلة. كان التحدى الأول الذى واجهته اوروبا متمثلاً في ازمة الطاقة في العام 1973 بمثابة هزة عنيفة كادت أن تقصف بالجهود وتبدد الطموح للمجموعة الاوروبية خاصة نتائجها المتمثلة في شبه الانهيار لنظام بريتون وودز المالي، وتزايد العجز لدى العديد من الدول في ميزان مدفوعاتها. ومع اشتداد الازمة التي ضيقت من حلقاتها، لجأت العديد من الدول الاوروبية لتغليب نزعتها وميولها القومي علي حساب النزعة الجماعية التكاملية للمجموعة، وسعت كل دولة للالتفاف حول قرارات المجموعة وتبني سياسات وطنية لتتلافي بها الاثار الناجمة عن ا لأزمة، غير عابئة بتأثير ذلك علي الكيان الاوروبي الناشي، حيث تبنت الدول سياسات الدعم وفرض الضرائب وبعض القيود الفنية لتحقيق مكاسب اقتصادية علي حساب الدول الاخرى. يأتي الاحتفال بالذكرى الستين لمعاهدة روما في ظل تحول تاريخي هام أعاد لدائرة الاهتمام لدى السياسيين والاكاديميين والمراقبين طرح سؤال محوري ظل نقطة الارتكاز للعلاقات بين الدول منذ التوقيع علي اتفاقية وستفاليا في عام 1648، والتي وضعت اللبنات الأولي للدولة القطرية ذات السيادة. بات النقاش يدور حول ايهما أفضل اعلاء نزعة القومية والسيادة القطرية للمحافظة علي مصالح الدولة العليا أم السياسات التكاملية والعمل الجماعي والترابط هي الافضل لتحقيق علاقات بين الدول اكثر استدامة وذات قدرة علي تحقيق مكاسب وتلبية تطلعات الشعوب في تحقيق السلم والأمن والرفاه الاقتصادي والاجتماعي. نستطيع ان نستخلص من الدروس المستقاة من تجارب علاقات الشعوب والامم ان التوجهات القومية المحضة وسياسات الانكفاء علي الذات تقود دائماً لعلاقات دولية متوترة ونتائج كارثية كما حدث في النصف الاول من القرن العشرين، حيث قادت سياسات الدول الصناعية الكبرى حينها والقائمة علي الانعزالية واعلاء النزعة والمصالح القومية علي حساب الاطراف الاخرى الي احداث دولية مدمرة متمثلة في الحربين العالميتين الاولى والثانية، وما تخللهما من فظائع قهر واستبداد وابادات جماعية وسياسات استعمارية حيث لم تكن هنالك اي اتجاهات تعاونية بين القوى الدولية الكبرى لمواجهة القضايا المشتركة كالازمات والنقص في الغذاء، وذلك بسبب غلبة النزعة القومية والسياسات الحمائية والانعزالية ظناً منها أن حماية المكون القومي يبعد خطر الازمات والتوترات من المحيط المجاور. ادركت هذه القوى أن السبيل الوحيد لاستدامة الامن والسلم والرفاه الاقتصادى والاجتماعي هو خلق علاقات دولية متشابكة مترابطة ذات صيغة تعاونية لمواجهة التحديات ذات الطابع الدولي، التي تؤثر وتتأثر بما يحدث في اي بقعة في العالم، ونشأت علي غرار ذلك المؤسسات الداعمة لهذا التوجه مثل الاممالمتحدة والبنك وصندوق النقد الدوليين ومنظمة التجارة الدولية وخلافه، وسادت مفاهيم العولمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بقيادة وريادة من المجتمع الغربي الذي يمثل الليبرالية السياسية علي اوسع نطاقها. اثبتت التجربة في اعقاب الحرب العالمية الثانية نجاح هذه السياسة في درء نشوب حرب عالمية اخرى، وساد السلم والامن الدوليين لعقود ازدهرت فيها الانسانية وتطورت وشهدت نمواً اقتصادياً واجتماعياً واضحاً. ظل المجتمع الغربي، اوروبا والولاياتالمتحدةالامريكية، هو الفاعل الاساسي في مجريات السياسية الدولية منذ القرن الماضي، واستطاع عن طريق دعم التوجهات الليبرالية من هزيمة المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي خلال حقبة الحرب الباردة. وفي اعتقادى، أن السيطرة والريادة الغربية ذات التوجهات الليبرالية ستظل هي السائدة لفترة من الزمن في المستقبل المنظور، رغم التحديات التي اصبحت ماثلة والمؤشرات التي تدل على ميول بعض الدول تجاه سياسات انعزالية تركز علي الذات القومية اكثر من النظرة الجماعية والذي يتمثل في خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي، الذي اعتبره العديد من المراقبين اكبر خطر يهدد وحدة الامم الاوروبية. ان خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي فرضته عوامل وظروف وملابسات سياسية واقتصادية عديدة لعل من ضمنها الهجرة، ليس فقط من دول افريقيا والشرق الاوسط، وانما أيضا من داخل اوروبا الشرقية. يعتبر خروج بريطانيا دلالة لعدم ثقتها في المقدرة المؤسسية للاتحاد الاوروبي للتعامل مع التحديات الماثلة ، وبمعني اخر تحول بريطانيا، وهي دولة لها وزنها ليس فقط في اوروبا وانما في العالم، للانكفاء الداخلي والاهتمام بشأنها بمعزل عما يدور في محيطها الاوروبي. وبالنظر الي ما يحدث في عالمنا اليوم في عهد الرئيس الأمريكي ترامب من خلال شعارات السياسة الخارجية التي رفعها والتي تنادي بأمريكا اولاً، مما يعني الجنوح نحو القومية ودعم التيار الشعبوي المتنامي، الذي يرى أن علي امريكا ان تراعي شئونها الخاصة وتترك بقية العالم وشأنه. تثير هذه التوجهات قلقاً واسعاً علي المستوى الدولي، خاصة وأن الحدثين يسيران في اتجاه الانزواء والاحتماء بالنزعة القومية الخالصة علي حساب المصلحة العامة للمجتمع الدولي. ومما لاشك فيه ان تنامي التيار الشعبوي في امريكا واوروبا يثير العديد من المخاوف علي استدامة النظام الدولي الحالي وافرازاته المتمثلة في العولمة. كما ويعيد ذلك للاذهان، مع اختلاف الظروف والملابسات، التحول الذي حدث في السياسة الخارجية الامريكية بتركيزها علي قضاياها الداخلية علي حساب التعاون الدولي، في عهد الرئيس الامريكي ودرو ويلسون، خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، نتيجة للفشل الذي لازم احداث اصلاحات في النظام الدولي بالاضافة الي تكلفة دخول الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية الاولى. ان انكفاء دولة كبيرة في المجتمع الدولي لها وزنها ومكانتها مثل بريطانيا سيكون له تأثيرات عميقة في مسار الوحدة الاوروبية وفي الشأن الداخلي البريطاني وعلي الصعيد الدولي. اذ ان ذلك لا يدرء عنها تداعيات ما يحدث في محيطها الجغرافي، ولا في الشأن الدولي، وتصبح تبعاً لذلك حتمية التعاون والتنسيق هي الانجع لحل القضايا المصيرية المشتركة. هذا ما سيسعى القادة الاوروبيون لتوضيحه في الذكرى الستين لمعاهدة روما مع التحذير من تداعيات انسحاب الدول من الاتحاد الاوروبي باستلهام تجارب التاريخ وعبره. يرى بعض القادة ان ميزة الامن والسلام والاستقرار التي وفرتها طبيعة العلاقات التكاملية التي سادت عقب الحرب العالمية الثانية هي لوحدها كفيلة لدعم الوحدة الاوروبية والمحافظة علي الاتحاد الاوروبي ككيان واحد متماسك لجميع دوله الاعضاء التي من المفترض ان تعمل لتدعيم مؤسساته لتكون قادرة علي الاستجابة السريعة للتحديات التي تواجهه. وتبعاً لذلك نشطت المنتديات السياسية والاكاديمية وتصدرت صفحات المجلات والدوريات نقاشات هامة حول مستقبل هذا الكيان، حيث أن اوروبا لم تعش لحظات اكثر تشككاً في وحدتها من هذه، وهي بالطبع اصعب الفترات في التاريخ الاوروبي منذ التوقيع علي اتفاقية روما، خاصة وأن افكاراً بدأت تظهر من قبيل ان يسمح لعدد محدود من بلدان الاتحاد الاوروبي ذات الاوضاع المتماثلة بالنظر في تكوين اتحاد بينهم، تلك الفكرة التي استقطبت عدداً من الدول الهامة والمؤثرة مثل فرنسا والمانيا، مما اثار قلق الدول الاوروبية الاخرى خاصة دول شرق اوروبا التي باتت ترى ان واقع الحال وما يدور من نقاشات ربما ينتج عنه دولاً اوروبية من الدرجة الاولى واخرى من الدرجة الثانية واوروبا الشرقيةوالغربية والقوية والضعيفة وهكذا. بالطبع فأن الذكرى الستين لمعاهدة روما تعتبر نقطة البداية لنقاش طويل وسجال حول مستقبل الاتحاد الاوروبي، وتكتسب أهمية خاصة فيما اذا كانت هذه النقاشات ستفضى الي نقطة تحول هامة في مسيرة الاتحاد الاوروبي، الذي يرى العديد من دوله انه لم يتطور في مؤسساته الي مستوى الطموح، وهو ما يتوجب لهذا الكيان النموذج السعىي لتحقيقه حتى يتمكن من مواجهة التحديات الماثلة امامه مثل تدفقات اللاجئين، والاتفاق علي ادراة مشتركة ذات نظرة كلية للامن الجماعي الاوروبي عبر تقاسم الالتزامات تجاه القضايا المصيرية الهامة للوحدة الاوروبية. وسيراقب العالم اجمع التداعيات المتوقعة لهذا الحدث التاريخى الهام والجميع يتطلع الي اوروبا موحدة من اجل خير ونماء ورفاهية الانسانية.