انتعشت الحياة في منتصف الستينات الماضية في السودان عموماً، فقد كان الناس متلهفون الي جني الثمار من خيرات ثورة أكتوبر الشعبية العظيمة والتي هوت بقصور اول دكتاتورية عسكرية. وكان واضحا ان المجتمع بدأت تعود اليه الكثير من الحريات. وفي العام 65 بدأت حكاياتي في بري الدرايسة.. تقاسمت مع الخالة آمنة الصافي وأسرتها المكونة من زوجها الخال علي بابا (اسكنه الله في عليين) وعيالهم الأربعة كبيرهم محمد ثم طه وياسر وأختهم الوحيده التي لحقت بابيها عليهما رحمة الله- ولا بد لي هنا ان اذكر ان خالتي بت الصافي احتضنتي، بعد ان تعذر على السكن مع احدى قريبات امي لظروف تعرفها هي، ولم تترد حاجة آمنة ولن أنس لها ذلك الفضل ما حييت فكل نجاح أصبته تكون هي شريكة فيه لأنني وجدت في بيتها الحنان والمن والسلوى وأسباب الراحة رغم انها لم تملك قصراً او حتي بيت من غرفتين ولكن ماأعطته لي يساوي أكثر من ذلك.. وفي ذلك البيت نشأت بيني وبين طه علاقة صداقة عميقة ووطيدة، وطه يماثلني عمراً وقد ولد قبلي بشهر ومؤكد انه من أؤلئك المحظوظين اللذين ادركوا عملية تسجيل المواليد، وكيف لا وهم من مواليد العاصمة حيث ان كل شئ متوفر من تعليم وصحة وغيرها. اما صاحبكم فما زال مجهول تاريخ الميلاد-بالله عليكم هل هذا كلام يعقل؟- انسان بدون سجل ميلادي وكل مافي الامر مجرد تقدير عمر (تسنين) طيب لو افترضنا انك عديم أسنان مثلا فماذا يفعلون؟..وعندنا في معظم تلك القرى يقرنون تاريخ ميلاد الفرد منهم بحادثة معينة، واظن ان هذه عادة موجودة عند العرب منذ قديم الزمان، والأعجب من هذا كله ان البنت عندنا، وفِي جيلنا خاصة لا يذكر لها عُمْر، وطبعاً هذا الشئ مريح لبنات حواء فكل شي الاّ هذا الامر .والعجيب ان اهل القرى تغلب على الكثيرين منهم عادة المغالطة في حكاية التواريخ، ولا أدري ان كان ذلك بقِصر الذاكرة، والتي في تقديري لا تنشط كثيراً نسبة لمحدودية التفكير، واكيد ان هولاء البشر تنحصر حياتهم في حواشاتهم ومجاملاتهم البسيطة والتي لا تتعدى مناسابات الافراح والأتراح فكيف تنشط هذه الذاكرة لغير ذلك الا الحوادث العظمي مثل الفيضانات او الحروب؟ طه علي!! انسان طيب مرح احد اهم الشخصيات التي تعاملت معها بعفوية وكنا لا نفترق الاّ وقت الدراسة، فهو يدرس بمدرسة بري الدرايسة الاولية وذهبت انا لمدرسة بري ابو حشيش. ولطه شخصية كراكتيرية وله موهبة عجيبة على التعرف على الناس، فان رأيته وهو صامت لظننت انه مسكين، لكن وراء هذا السكون دواهي..ولي مع هذا الرجل حكاوي ان أسعفتني ذاكرتي سارويها يوما ما ولو بالقطاعي.. الحوش الذي سكنت فيه مع أسرة خالتي آمنة بت الصافي كان مقسماً الى خمس حيشان وكل حوش به غرفة واحده وهذا الحوش الصغير حجماً كان يسع بقدرة قادر أسرة من زوجين وأبناؤهما الذين قد يصل عددهم السبعة وربما ينقص قليلا وكل تلك النفوس محشورة بداخلها ولكنها لعْمرِك الطباع السودانية السمحة التي تعمل بنظرية اهل السودان (النفوس ان تطايبت العنقريب بشيل مية).. لا اتذكر من هو مالك ذلك الحوش العتيق ذو البيوت الطينية العالية جداً، حتى صديقي طه بكل شقاوته لا يستطيع ان يطاله، حتى اخطر لص، وعلى ذكر اللصوص فلم اسمع بان حرامي (تلب) على بيت من هذه البيوت وان حدث ذلك فسيكون فيه هلاكه فاهل بري البراري عموماً وبري الدرايسة على وجه الخصوص مشهود لهم بالتكاتف وكانوا يتداخلون في كل صغيرة وكبيرة رغم اختلافاتهم الاثنية والعرقية فكنت تجد فيهم اهل الوسط الشمال والغرب وغيرها من المناطق، وتلك السمات تخص الشخصية السودانية واعتقد ان بعضاً من هذه السمات الطيبة بدأت في الانقراض مما خلق نوعاً من الجفاء ان لم نتداركه فقد يحدث الاحتكاك غير الحميد والذي هو أصلاً موجود.. ساهم سكني في بيت خالتي آمنة، والتي لم تميزني عن اولادها أبداً، في استقراري خاصة وقد صرت واحداً من اهل هذا البيت الكريم في زمن وجيز مما شجعني على احتمال البعاد عن أهلي في القرية، وبدات أتعود على الغربة رغم ان قريتنا لا تبعد كثيراً عن الخرطوم، ولكن رغم ذلك فقد كنت أعد الايام عداً حتى ارجع لاهلي فليس هناك احنّ الي الانسان من أمه مهما بذل وبالغ الناس لك في العطاء. ولنا لقاء ان شاء الله مع مودتي.. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.