(اليوم أكملت لكم صبوتي... وأتممت عليكم سيرتي... و رضيت بكم الإنسان ديناً) كانت هذه رسالة الوداع التي خطها أبوذر الغفاري عبدالله الحسن لصديقه الأستاذ/أحمد حضرة، لعله كان يستشعر قرب لحظات الفراق ونهاية مشواره المليء بالحبوالإبداع ، فقد كان محبوباً لدى جيرانه وأصدقائه متفوقاً على أقرانه، خطاطاً مبدعاًوشاعراً مرهفاً عميقاً (سبحانك اللهم ما انزلتنا هكذا سهواً لنحيا سهواً) (عفواً هكذايتحايلون لكي نراك على اشتعالك خارجاً هل كان مكتوباً لدينا اكتمالك او جمالك اوكمالك في المساء المر بدراً حينما شبهت مصلوباً على باب النهار) هذه بعض اشعاره التي يرى المقربون منه انها ربما كانت سبباً في اختفائه، خاصة بعد مرثياتهالتي كتبها عقب اعدام الاستاذ محمود محمد طه، هذا الى جانب ارائه السياسيةونشاطه الثقافي والاجتماعي ومجاهرته بالحق ورفضه لحكم الاسلاميين منذ عهد نميري والى نظام الانقاذ الذي اختفى فيه أبوذر بعد اربعة شهور فقط من سيطرته على السلطة ولم يظهر حتى الان . مدخل :- يستند هذا التحقيق وما به من معلومات على ما افادنا به شقيقه محمد وشقيقته إخلاص وصديقه الاستاذأحمد حضرة . ولد أبو ذر في 1958م بمدينة بحري حي المزاد ثم انتقلت اسرته الى الحاج يوسف مربع 3 درس الابتدائية بالوابورات ثم الثانوي العام ببحري الاهلية، وقد تميزت تلك الفترة بالوعي والنشاط السياسي في المدارس الثانوية . كان هادئاً، عنيداً، ذكياً، محبوباً، ومتفوقاً في كل شيء حتى في لعب الكرة والبلّي، يكتب الشعر والقصص والمقالات في بعض الصحف منها صحيفة الاسبوع التي كان رئيس تحريرها محيي الدين تيتاوي الذي اختلف معه ابو ذر وقدم استقالته، له ديوانان من الشعر (الاعتراف بين يدي الحبيبة) و (سوناتا) وعدد من القصائدتغنى بها ابوعركي البخيت (قبل المشوار ، القادوس) و (في عيونك) التي تغنى بهامصطفى سيد أحمد ، وكتب ايضاً رسالة وجد لابي ذر الغفاري ويقصدهنا الصحابي الجليل ابا ذر، هذا الابداع لم يتأثر بالاعاقة التي كانت في يدي ابي ذر ولم تكن حاجزاً بينه وبين التفوق والتميز وقوة الشخصية، وهي اعاقة خلقية حيث كانت يده اليمنى قصيرة وبها اصبعين فقط ويده اليسرى بها ثلاثةاصابع . علاقته بوالدته :- كان ابوذر اصغر اخوانه لذلك ظل هو المقيم مع والدته الحاجة سكينة بعد زواج اشقائه وانتقالهم من منزل الاسرة الكبير، فكانت تربطه علاقة قوية جداً معها فهي لا تأكل ولا تشرب ولا تنام الا بعد عودة ابي ذر وكان يراعيها ويهتم بها لذلك هي اكثر الذين عانوا من فقدانه وتأثرت جداً لدرجة المرض الى ان توفاها الله . نشاطاته :- من ابرز نشاطاته في الحي هو المعهد الذي خصصه لدروس التقوية لطلاب الشهادة، وكان يدرّس فيه ذوي الاحتياجات الخاصه مجاناً ، اما في الجامعة فقد تم اعتقالهعدداً من المرات بسبب المحاضرات التي كان يلقيها للطلاب . وبحسب افادات اسرته لصحيفة (المواكب)كان لابي ذر نشاط واراء سياسية الا انه لم ينضم الى تنظيم سياسي محدد، فاحياناً يشير الى الاشتراكية الاسلامية الغفارية في بعض قصائده، بينما قال شقيقه محمد انه كان يميل الى حزب البعث الاشتراكي وكان متأثراً بالصحابي ابي ذر الغفاري لذلك تجد في نفسه نزعة صوفية انعكست في كثير من قصائده، وقال صديقه الاستاذ أحمد حضرة في افاداته لصحيفة(المواكب) انه قد تأثر جداً باعدام الاستاذ محمود محمد طه وكتب اكثر قصيدة فيهذه القضية وهو ما جعل بعض الاسلاميين يتهمونه بالكفر وبعد انقلاب الانقاذتواصل العداء بينه وبين الحكومة الجديدة، وكانت لديه منتديات ومخاطبات يلقيها في الجامعة وكذلك في الحي فهو دائماً يقف مع الحق اكثر من انه ينتمي لحزب اوجهة محددة . قصة الاختفاء :- اختلفت الروايات حول طريقة وسبب اختفائه، لكن بحسب حديث شقيقه محمد الذي قال في التاسع من اكتوبر عام 1989م ارسلت اليه والدته الحاجة سكينة تخبره بأنابي ذر تأخر عن موعد عودته الى المنزل، واخبرته بأن شخصاً يدعىعادلجاء وطرق الباب يسأل عن ابي ذر الذي لم يكن موجوداً وقتها بالبيت، وعندماعاد ابي ذر اخبرته بذلك فخرج ولم يعد مرة اخرى . أما الرواية الثانية التي اخبرتنا بها شقيقتهإخلاصان ابي ذر كان يجلس امامالمنزل ومعه اثنان كأنهماصديقيه او لديه علاقه بهما وكانت لديهما سيارة تقفبالقرب منهم، وبعد قليل دخل ابي ذر الى البيت وارتدى بنطالاً تحت الجلابية واخذبعض الاوراق وترك نسخة من مفتاح المنزل التي كان يحملها معه دائماً ثم خرجولم يعد . صديقه احمد حضرة قال ان غفاري كان نائماً عندما طرق احدهم الباب وطلب مقابلته فرفضت الحاجة سكينة ايقاظه، وبعد ان استيقظ ابنها اخبرته بان شخصاً اراد مقابلته فخرج ولم يعد . إذاً فالشاهد ان هنالك من جاء يسأل عن غفاري فخرج هو خلف ه / هم ولم يرجع حتى الان . تأويلات ما بعد الخروج :- ومن هنا بدأت رحلة البحث وفتح باب التأويلات لماذا لم يعد ابو ذر الى والدته مرةأخرى ؟ لماذا ترك كل شيء خلفه فجأة ؟ هي اسئلة لم تجد إجابات شافية الى الان، الا ان شقيقه وشقيقته أكدا على ان الاسرة بحثت كثيراً في المستشفيات وفي مراكزالشرطة والمعتقلات لكنها لم تجد أثراً ولا دليلاً او حتى خيطاً يوصلها الى ابنهاالمفقود، وفي محاولة اخيرة حاول شقيقه زين العابدين ان يفتح الملف مرة اخرىعقب سقوط النظام السابق وانتصار الثورة لكن ليست هنالك اي نتيجة حتى الان. وقبلها ذهبت اسرته الى منزل الرئيس السابق عمر البشير وتحدثوا الى والدته وكانت الاجابة ايضاً ان ابي ذر غير موجود في معتقلاتنا . ويقولمحمدانه على قناعة بأن ابي ذر لا يزال حياً يرزق في مكان ما، وانه سوف يعود اليهم مرة أخرى، ويستند في ذلك الى عدد من الوقائع والاحاديث التي وردت عن بعض الاشخاص قالوا انهم شاهدوا شقيقه في دول اخرى، منهم احدى الفتيات اللاتي كن يدرسن لديه في المعهد وقالت انها رأته بجمهورية مصر العربية، ويؤكدمحمدهذا الكلام بأنه شاهد في حلقه من لقات برنامج صحة وعافية الطبي احد الاطباء المصريين يعرض حالات لتشوهات خلقية قام بعلاجها وقد كانت يد ابي ذر موجودة من ضمن الصور التي عرضها، ويواصل السيد محمد حديثه معنا بان احد اقربائهم قال لهم ان شقيقه الذي يقيم في العراق رأى ابا ذر مرتين هناك، وقبل عدة سنوات ايضاً التقى باحد معارفهم وقال له (اخوك موجود، وقبل اختفائه قال انه سيخرج من البلد دي والجن الاحمر لن يجده) . ومن خلال هذه الروايات يرى محمدان شقيقه كان متأكداً بان هناك من يتربصون به ولن يتركوه والدليل انه ومنذ مغادرته لم تأتي اي جهة تسأل عنه لذلك قرر الخروج لكن بالطبع ليس بالطرق الرسمية لان جواز سفره لايزال موجوداً عندي، واذكر انه عندما عاد الشاعر حميد الى البلاد والذي تدور الشكوك حول وفاته هو وعلي محمود حسنين الذي مات بعد الثورة سأل بعض الاشخاص الشاعر حميد عن ابي ذر وهل سيعود فقال لهم (ابو ذر اخطر مني)، لذلك انا على قناعة بانه موجودوسوف يظهر عندما تتغير الاوضاع بالبلاد والتي لن تستقر الا بقيام انتخابات حرة نزيهة بعدها ستظهر كل المعلومات . في عيونك :- يبدو ان هنالك ثمة علاقة كانت تربط بين ابي ذر والفنان مصطفى سيد أحمد، وبحسب حديث شقيقته" إخلاص "انها لم تقتصر على التعاون الفني وقصيدةفي عيونك التي كتبها ابو ذر وتغنى بها مصطفى، حيث قالت ان اعتقال شقيقها في احدى المرات كان بسبب شريط سجلته اسرة الفنان واخذه غفاري ليرسله له عبر مطار الخرطوم خارج السودان، لكن تم اعتقاله من قبل السلطات الحكومية التي اعتقدت ان الكاسيت به معلومات اخرى، ولاحقاً بعد اختفاء ابي ذر قالت شقيقته انها ذهبت لمصطفى لتسأله عن سر غياب شقيقها فقال لها (انه موجود وليس ميتاً) . واضافت في حديثها ل(المواكب) انه بعد اختفاء شقيقها جاء اليهم احد الذين معه في المعهد وقال ان غفاري قام ببيع المعهد وحول المال الى دولارات، وقالت انه قبل اختفائه كان دائماً يتحدث عن المضايقات التي يتعرض لها وانه يريد السفر، لكننابحثنا في كل المعابر والمطار ولم نجد له اثراً، وانا اقول بنسبة 80% اما لايزال معتقلاً او تمت تصفيته، واذكر ان له صديق يدعى ايوب وهو طبيب اختفى معه في ذات اليوم لكنني لا اعرف عنه شيئاً. ويقول صديقه أحمد حضرة انهما كانا متابعين لكل منتديات وبروفات مصطفى سيدأحمد، وانه اخذ قصيدة في عيونك واعطاها لمصطفى، وقال ان دواوين ابي ذر لمتطبع حتى الان والنسخة التي كانت معي اعطيتها لمصطفى، ويرى حضرة ان كتابات ابي ذر ومرثياته في محمود محمد طه كان لها دور كبير جداً في اختفائه . وتم فتح بلاغات وفي ذلك الوقت كانت توجد بيوت الاشباح لكن المعلومة كانت غيركاملة والاعتقال يتم من اكثر من جهة واحدهم قال انه شاهد غفاري في المعتقل،لكن كثيراً من الاشخاص تمت تصفيتهم من قبل حكومة الانقاذ . أمل اللقاء :- امتداد فترة غياب المبدع غفاري جعلت اسرته واصدقاءه بين الشك واليقين بعودته اليهم مرة اخرى، فبينما ظل شقيقه محمد على يقين برجوع ابي ذر وانه لايزال يعيش في مكان ما وحتماً سيعود، ظلت شقيقته اخلاص بين امرين رجحت الاول وهو ان شقيقها تمت تصفيته، وكذلك صديقه احمد حضرة استبعد فكرة عودته وقال بان الامل ضعيف لطول الفترة خاصة فكرة السفر او الخروج من البلد لم تكن على لسان غفاري مطلقاً . تحقيق – نشر في صحيفة المواكب