لم يكن معظم الذين شاركوا في تظاهرات ميدان التحرير في القاهرة قد ولدوا عندما وقعت مصر و"إسرائيل" معاهدتي كامب ديفيد والصلح في عامي 1977 و،1978 وبالتالي فإن هؤلاء اعتادوا على علاقات عادية بين البلدين لم تتخللها الحروب . أضف إلى ذلك أن المطالب التي رفعها هؤلاء كانت في جلها داخلية اقتصادية واجتماعية الطابع، بالإضافة إلى ما يتعلق بتداول السلطة وعدم توريثها واحترام الحريات وغيرها قبل أن تتطور إلى ثورة شعبية أطاحت بالنظام المصري . ولا يلاحظ المراقب لشعارات ما أضحى يسمى بثورة 25 يناير/ كانون الثاني بأنها طالبت بإلغاء المعاهدة مع “إسرائيل" ولو أنها عابت على الرئيس مبارك علاقته الدونية بهذه الأخيرة وبالولاياتالمتحدة أيضاً . ومن جهتهم لم يبد “الإسرائيليون" قلقاً ملفتاً إزاء ما حصل في مصر رغم تصريحاتهم عن ضرورة التمسك بالاتفاقات المعقودة معها “لمصلحة البلدين والسلام في المنطقة" (أي سلام؟)، الأمر الذي أكده المجلس العسكري في بيانه الخامس، باحترام مصر لالتزاماتها الدولية والإقليمية . رغم ذلك يبقى السؤال مشرّعاً حول مستقبل العلاقات المصرية “الإسرائيلية" بعد انهيار نظام حسني مبارك كما التطلعات إلى عودة مصر لمزاولة دورها التاريخي في ساحة العروبة . لكن بمعزل عن التمنيات والأحلام، رغم مشروعيتها وضرورتها، فإن من السذاجة بمكان الاعتقاد أن مصر جمال عبدالناصر هي التي تولد أمامنا في هذه اللحظات التاريخية . فقد ترك حسني مبارك بلداً مثخناً بالجراح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتي يتطلب علاجها وقتاً طويلاً وحاجة إلى المعونات الأجنبية لاسيما الأمريكية منها . وسيكون الحكم الجديد منهمكاً بورشة هائلة ومعقدة لإعادة إعمار ما هدمه الفساد وسوء الإدارة في الداخل قبل أن يتمكن من التطلع إلى إعادة صياغة سياسة خارجية تستحقها الدولة الإقليمية العظمى التي كانتها مصر في أيام الرئيس جمال عبدالناصر . ومن المؤكد أن الأمريكيين سوف يراقبون جيداً تطور السياسة الخارجية المصرية لاسيما حيال “إسرائيل" وسوف لن يتأخروا عن ممارسة الضغوط عندما يشعرون بالحاجة إليها . وخيارات مصر الدولية تبقى محصورة في غياب ثنائية أو تعددية دولية تسمح لها بالمناورة بين القوى العظمى كما كانت عليه الحال أيام الاتحاد السوفييتي على سبيل المثال . بالإضافة إلى ذلك فإن الوضع المالي والاقتصادي لا يسمح للقاهرة، أقله في الأمد المنظور، بتحديث الجيش المصري وتزويده بالسلاح والعتاد والمنظومات الدفاعية التي تجعله قادراً على مواجهة “إسرائيل" إذا ما قررت احتلال سيناء رداً على قرار القاهرة إلغاء معاهدة كامب ديفيد . وستكون مجازفة كبرى إذا كانت بمثل هذا الإلغاء قبل استكمال الاستعدادات الضرورية له، وهذا أمر لن يكون ممكناً في المدى القريب . ولكن من الناحية المقابلة فإن الجيل الذي خاض ثورة 25 يناير يشاهد في كل يوم على شاشات الفضائيات كما يقرأ في الصحف العربية منها والأجنبية ويسمع في الإذاعات أخبار المذابح التي ترتكبها “إسرائيل" ضد أطفال فلسطين والظلم الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني، وبالتالي فهذا الجيل يستشعر العار الذي استجلبته لبلاده سياسة التخاذل أيام مبارك التي ذهبت إلى حد المشاركة في الحصار الظالم على غزة . جيل الشباب هذا الذي أسقط النظام يتطلع إلى نظام بديل يعيد إلى مصر كرامتها المهانة ودورها المفقود، ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا اتخذت مواقف وسياسات إقليمية مغايرة لتلك السائدة منذ وفاة جمال عبدالناصر . صور هذا الزعيم العظيم كانت حاضرة في التظاهرات الشعبية التي غابت عنها تماماً صور الرئيس الراحل السادات الذي عقد الصلح مع “إسرائيل" وفي ذلك ما يخبر الكثير عن نبض الشارع العربي المصري ودوافع ثورته . صحيح أن مصر لن تتمكن من إلغاء معاهدة كامب ديفيد لكنها سوف تتمكن على الأقل من مطالبة “إسرائيل" باحترامها، إذ إن المعاهدة المذكورة تتضمن في ديباجتها تعهداً بعدم تهديد السلم في المنطقة والاعتداء على دولها، وهذا ما لم تنفك “إسرائيل" تفعله منذ انسحابها من سيناء في عام 1982 . وقتها قال مناحيم بيغن علناً إنه انسحب من سيناء كي يتمكن من التفرغ للجبهة الشرقية فاحتل بيروت، وما كان ليفعل لولا اطمئنانه للجبهة الغربية . وبعد اجتياح لبنان في عام 1982 تكررت الاعتداءات “الإسرائيلية" على لبنان و فلسطين بوتيرة غير مسبوقة . يحق للمصريين المطالبة بمراجعة المعاهدة، وهو أمر مسموح به كل خمس عشرة سنة رغم أنه لم يحصل إلى الآن، لاسيما البند المتعلق بتوريد الغاز إلى “إسرائيل" بأسعار تفضيلية . ولا شيء يلزم السلطات الرسمية المصرية بإقامة علاقات حميمية الطابع مع “إسرائيل" في وقت يعرض فيه الشعب المصري عن التطبيع معها، ولن تتمكن الولاياتالمتحدة من إجبار القاهرة على استقبال المسؤولين “الإسرائيليين “ في مناسبة وغيرها لاسيما في وقت يقوم فيه جيشهم بالمجازر في فلسطين أو لبنان، ولا يمكن لكل الضغوط أن تجبرمصر على المشاركة في حصار غزة إلى جانب جيش الاحتلال . مما لا شك فيه أن على “إسرائيل" من الآن فصاعداً أن تعتاد على استقبال أشياء مختلفة عن الهدايا المجانية التي اعتادت عليها من مصر في حقبة السادات ومبارك التي أنهتها ثورة الخامس والعشرين من يناير . المصدر: الخليج 16/2/2011