تحليل سياسي رئيسي عقب التوقيع على اتفاقية نيفاشا فى شتاء العام 2005 و قبل وصول زعيم الحركة الشعبية الراحل د. جون قرنق الى العاصمة السودانية الخرطوم لأداء القسم نائباً أول للرئيس ، بادر وفد من أعيان قبيلة الدينكا التى ينتمي لها قرنق بلقائه . فحوي القاء تركز حول ضرورة ان يصدر قرنق قراراً يمنح قبائل الدينكا إذناً لإجلاء قبيلة الشلك من بعض الأماكن التى تري قبيلة الدينكا أنها هى الأحق بها. الراحل قرنق – مع كونه متنفذاً و له تصميم وإرادة قوية- إلا انه فطن لخباثة الطلب و مخاطره الآنية و المستقبلية ، وسرعان ما رفض الطلب و بشدة زاجراً الوفد الذي طلب منه ذلك . تلك كانت خلفية مهمة ومدخلاً مناسباً لفهم ما يجري الآن – بعد مرور أكثر من ست سنوات على تلك الحادثة- ففي منطقة أعالي النيل وتحديداً فى مقاطعة (فينكانق) أحدي مقاطعات ملكال سيَّر أبناء قبيلة الشلك- غالبهم من الشباب - تظاهرة نددوا فيها بالمحافظ المعين حديثاً و الذى قالوا انه شرع فى نزع أراضي قبيلة الشلك بطريقة غير مباشرة عبر توطين قبائل أخري فيها. المحافظ الجديد والذى يدعي(غبريال جاقو) فى تصريحات له لراديو مرايا نفي الأمر جملة وتفصيلا ، و وجَّه اتهامات صريحة بذلك لحركة الدكتور لام اكول (التغيير الديمقراطي) . غير أن ما كذب اتهامات المحافظ ان الشباب الذين تظاهروا قالوا إنهم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم لما لمسوه من محاولات حثيثة من جانب المحافظ للإستيلاء على أراضيهم . و الواقع ان هذه الأزمة كما أسلفنا قديمة وعميقة الجذور إذ ان هنالك دائماً استهداف لقبيلة تجاه قبيلة اخري وقبيلة الشلك – على وجه الخصوص – تستهدفها قبيلة الدينكا و تري ان كافة المناطق التى تقيم بها أولي بها قبيلة الدينكا، وبالطبع لو كان هذا الأمر صحيحاً لعالجه الراحل قرنق بشتي السبل ، ولعل اكثر ما يستفاد منه فى مثل هذه المواقف ان الجنوب السوداني و دون أدني شك او مبالغة ما هو الا برميل بارود قابل للاشتعال فى اى لحظة ، فالتركيبة القبلية هناك مختلفة، و الصراع على الارض و على الموارد صراع مستمر و من المؤكد ان وجود حركة التغيير الديمقراطي بزعامة اكول يثير ضغائناً أكثر تجاه قبيلة الشلك التى ينتمي اليها أكول ، ومن المؤكد ايضاً ان وجود السلاح الكثيف و التداخل البالغ التعقيد فى هياكل الجيش الشعبي بين شتي القبائل ، كل هذه نماذج لصراعات قادمة لا محالة و لعل مما يجهله الجنوبيين أنفسهم ان روح المغامرة والتطلع للسيطرة على السلطة فى الجنوب على أشدها عقب الانفصال فأي قبيلة تستشعر الاضطهاد او الاستضعاف فإنها تسعي –بقوة السلاح و لديها بالطبع جنود فى الجيش الشعبي – للسيطرة على الأوضاع، او العمل على الأقل على فصل المنطقة التى تعيش فيها و إبعادها عن سلطان بقية الاقليم . هو إذن امتحان التعايش الصعب الذى يدخل اليه الجنوبيين و هم لا يملكون له ترياقاً و لا مصلاً واقياً حتى الآن !