“إنها أيادٍ خفية أجنبية هي التي توقد لهيب الثورات الراهنة في الشرق الأوسط العربي- الإسلامي" . هذه الآن هي “المانترا" (التعويذة السحرية) التي باتت تستخدمها مروحة واسعة من مختلف الأطراف في الشرق كما في الغرب: من الرئيس اليمني علي صالح وقادة عرب آخرين الذين يتهمون الأمريكيين (و"الإسرائيليين") بالوقوف وراء الانتفاضات، إلى بعض المحللين الروس والصينيين الذين يشتمون هم أيضاً روائح “مؤامرة أمريكية" تتسرب من مطابخ الشرق الأوسط هذه الأيام . هل ثمة صدقية ما في هذه الاتهامات أو الإيحاءات؟ يرد سريعاً أنصار هذه التعويذة . ثم هم يوردون بشكل أسرع “ذكريات" من نوع التسريب غير المفهوم قبل أشهر قليلة لوثائق “ويكيليكس" الدبلوماسية الأمريكية التي هزّت الأركان المالية والسياسية للعديد من أنظمة الشرق الأوسط (ماعدا “إسرائيل)، ثم تخلي الإدارة الأمريكية بلمح البصر عن حلفاء تاريخيين لها في مصر وتونس (والعد مستمر) . بيد أن الحجة الأقوى لأنصار هذه النظرية، تكمن في التوجهات الاستراتيجية الأمريكية في عهدي الرئيسين بوش وأوباما . ففي العام ،2001 وبعد أحداث نيويورك وواشنطن، أعلن بوش عن مشروع “الشرق الأوسط الكبير" الذي يهدف إلى فرض الديمقراطية بالقوة على كل الأنظمة من المغرب إلى أفغانستان . وقد كان غزو العراق، كما هو معروف، المرحلة الأولى من رحلة كان يجب أن تأخذ القوات الأمريكية إلى سوريا وإيران وربما دول أخرى في المنطقة لتغيير أنظمتها . هذا المشروع تعثّر في العراق كما في أفغانستان، بيد أنه لم يسقط في الداخل الأمريكي . وقد تطلب الأمر مجيء رئيس أسمر السحنة إلى البيت الأبيض كي تعاد صياغة هذه الاستراتيجية على أسس جديدة: بدلاً من استخدام القوة الصلدة لفرض تغيير الأنظمة، يجري استخدام القوة الناعمة لتحقيق الغرض نفسه . أبطال هذه المهمة الجديدة لم يعودوا البنتاغون ومجلس الأمن القومي الأمريكي ولاحتى وزارة الخارجية الأمريكية، بل منظمات غير حكومية كانت أصلاً تعمل بكثافة منذ عقد لبناء البنى التحتية لهذه الاستراتيجية . على رأس هذه المنظمات مركز الأبحاث “راند"، و"فريدوم هاوس"، والمؤسسة القومية للديمقراطية “National Endowment for democracy" . وهذه الأخيرة كان لها الدور الكبير والأبرز في النشاطات التي جرت في مروحة واسعة من الدول شملت تونس ومصر والأردن والكويت وسوريا واليمن والسودان، وحتى “إسرائيل" . كما أنها هي التي نسّقت، ولاتزال، سياسات تغيير الأنظمة “من تحت" في الشرق الأوسط . ويضم مجلس إدارة هذه المؤسسة وزير الدفاع السابق كارلوشي، والجنرال المتقاعد ويسلي كلارك، وزلماي خليل زاد مهندس غزو أفغانستان، ووين فيبر رئيس فريق السياسة الأمريكية للإصلاح في العالم العربي، وغيرهم . الأمر، إذاً، لايحتاج إلى “أيدٍ خفية" أو “مؤامرة سرية" . فالهدف، وكذلك النشاطات، الأمريكية، واضحة، ومباشرة، وعلنية . هذا مايراه أصحاب نظرية “الأيدي الخفية"، الذين يضيفون إلى ذلك التذكير بنظرية “الفوضى الخلاقة" التي عاشت عليها المنطقة طيلة الحقبة البوشية . بيد أن هذا المنطق يتهاوى سريعاً، ليس فقط لأن مراكز الأبحاث الأمريكية ليست بالطبع قادرة على تحريك ملايين المواطنين العرب الباحثين عن حريتهم، بل أولاً وأساساً لأن أحداً في الولاياتالمتحدة لايستطيع أن يضمن الحصيلة التي ستتمخض عنها الثورات المدنية العربية الراهنة . وهذا مايقودنا إلى النظرية الثانية . المصدر: الخليج 9/3/2011