حتى الآن تبدو اتجاهات الاعتدال التي تظهر أحياناً في سياسة الحركة الشعبية وكأنها سياسة مرسومة تلجأ إليها الحركة مرحلياً، ثم تنكفئ عائدة إلى سياستها الأصلية متى ما انقضت الظروف التي توجب الاعتدال. حتى الآن تبدو الحركة وكأنها تملك أوراقاً كثيرة صالحة للعب، بينما تبدو الخرطوم وكأنها لا تملك أوراقاً، أو كأنها تملك الأوراق ولكنها لا تستخدمها، أو كأنها عاجزة عن استخدامها. أحد المتابعين حاول أن يشرح سلوك الحركة وسلوك الحكومة المركزية ويشبِّهها بسلوك الأب مع ابنه. الأب أعقل، وبحكم السن، يملك تجارب أكبر بكثير من تجارب الابن ويعرف أخطاء الابن لكنه يحاول أن يعالجها بهدوء، بينما يعاند الابن حيناً، وتختلط عليه الأمور حيناً آخر، ويخلط بين الحقيقة والوهم حيناً ثالثاً. مناسبة هذا الكلام التصريحات المثيرة التي أدلى بها الأمين العام للحركة الشعبية باقان أموم يومي الجمعة والسبت الماضيين، يوم الجمعة قال إن المؤتمر الوطني يدبر مؤامرةً لإسقاط حكومة الجنوب. وفي يوم السبت، قال إن الحركة تجمِّد عملها في المفاوضات الجارية بين الجنوب والشمال لحل مشاكل الانفصال. خلال العام الماضي كتبت أكثر من مرة عن أن مناوشات الحركة الشعبية تجاه الشمال متوقعة، وستستمر بأشكال مختلفة مع الانفصال، فحكومة الجنوب تواجه أوضاعاً مأساوية من تمردات قبلية، ومجاعات، ووضع اقتصادي سيء، وفساد إداري ومالي يتغلغل بانتظام في شرايين حكومة الجنوب، وغيرها وغيرها... وقلت إن مواجهتها يمكن أن تتم عن طريق استنباط حلول ناجعة أو أن تفشل الحكومة في حلها، ورجَّحت الخيار الثاني لأن الجنوب لا يملك الكوادر البشرية المؤهلة لإنجاح إدارة الدولة الوليدة، بالإضافة لأسباب أخرى. لكن قلت إن المشاكل التي تثيرها الحركة الشعبية ليست حقيقية، فهي فقط متولدة عن البحث عن مبررات تسوقها الحركة لإعلان فشلها في إدارة الإقليم ثم الدولة فيما بعد، فالمشاكل بين الشمال والجنوب ليست مستعصية على الحلول، وبالتالي لن يتولَّد عنها توتر يقود إلى الحرب بين الدولتين، فضلاً عن أن الجنوب ليس مهيأً لخوض حرب جديدة، إلا إذا أراد إشعال الحرب للهروب من المشاكل. أيضاً هناك سؤال آخر مهم: هل كانت حكومة الجنوب تخطِّط لهذه المشاغبات عندما اقترحت تأجيل الوصول لحلول لهذه المشاكل لما بعد الاستفتاء؟ بعد السؤال هناك عدة ملاحظات يمكن أن تسجل الآن: ملاحظة حول نقل وتكرير بترول الجنوب. هذه مشكلة الجنوب أكثر مما هي مشكلة الشمال، ومفاتيحها في يد الشمال أكثر مما هي في يد الجنوب، لكن لا يبدو أن الشمال يحبِّذ استخدامها. وملاحظة حول الصراع القبلي الجنوبي. الحركة الشعبية تبدو كمن يقف متفرجاً عليه، لا هي قادرة على معالجته، ولا حتى على الاقتراب منه. وملاحظة حول الفساد الإداري والمالي الذي يضرب في عمق حكومة الجنوب، لا تبدو حكومة الجنوب قادرة على معالجته أو الاقتراب منه. وبعد .. في ظني أن تصريحات باقان أموم تقوم على لا أساس، فالمسرح السياسي في الجنوب والشمال مكشوف لمن يريد استقصاء طبيعة خلاف الجارتين، الوعي الشمالي يعرف أن استقرار الشمال من استقرار الجنوب، والتخلف السياسي الجنوبي يتصور أنه يمكن بمثل هذه الادعاءات نقل صراعات الجنوب للشمال.. هذا هو الفرق! نقلاً عن صحيفة الرائد 14/3/2011