مع أن الحركة الشعبية لم تأت بأي جديد على الإطلاق بشأن (خططها الظاهرة والمستترة) الهادفة إلى الإنفصال وانشاء دولتها المستقلة، ومع أن كافة تصرفات الحركة ظلت وباستمرار تؤكد أنها مهمومة تماماً بإقامة دولة جنوبية خاصة بها بصرف النظر عن ميول ورغبات المواطنين الجنوبيين، إلا أن الإقرار الصريح والمباشر في أمر كهذا يستوقف المرء ويثير تساؤلات على قدر كبير من الأهمية والخطورة. فقد أقرت الحركة الشعبية على لسان ممثلها المقيم بالعاصمة الأميريكية واشنطن (لول جاتكوث) في حديث مطول لصحيفة واشنطن تايمز الأميريكية أن (واشنطن تكشف جهودها لمساعدة الجنوب على الإستقلال)! وليت الأمر وقف عند هذا الحد فلربما كان اللوم هنا يقع على واشنطن التي لها (مآرب معينة) من فصل الجنوب، ولكن (جاتكوث) أضاف لتصريحه هذا تصريحاً صاعقاً آخراً، قال فيه (ان واشنطن تقدم دعماً مالياً سنوياً، يقدّر بمليار دولار للجنوب!!) تأمّل عزيزنا القارئ في الرقم المهول (مليار دولار سنوياً)، وتأمل أيضاً الأمر الأكثر غرابة، ان ممثل الحركة زعم أن هذا المال الطائل تصرفه حركته في إنشاء البنى التحتية!!، وتدريب رجال الأمن!! وتشكيل جيش قادر على حماية المنطقة!!، ومن المهم هنا أن نلاحظ جيداً إستخدام (جاتكوث) لعبارة (حماية المنطقة)! ان هذا الإقرار من جانب الحركة بهذا الدعم – سواء صّح حجم الدعم أو لم يصح – يشير إلى عدد من الأمور كل واحد منها أخطر وأسوأ من الآخر، فمن جانب أول فإن التصريح يعني أن قضية فصل الجنوب وإنشاء دولة جنوبية أمر مفروغ منه، فرغت من التخطيط له ورسم ملامحه الإدارة الأمريكية والحركة الشعبية وحدهما دون وضع أي اعتبار لا للقوى السياسية الجنوبية الأخرى (حوالي 17 حزباً جنوبياً) ولا للمواطنين الجنوبيين الذين هم أصحاب الحق في تقرير مصير إقليمهم، واذا كان الأمر كذلك فإن كل من واشنطن والحركة عملا على مخادعة السودانيين، واستنزفاه طوال الست سنوات الماضية استنزافاً غير مبرّر وان الفترة الانتقالية (6) سنوات لم تكن سوى فرصة لهما فقط للاعداد الجيد للانفصال. الأمر الثاني، أن الحركة الشعبية إما أنها تتسلم المليار دولار هذا (لجيوب قادتها الخاصة)، ومن ثم يكون ذلك ثمن شراء الإقليم من جانب واشنطن حتى تستطيع (بعد الفصل) التصرف والسيطرة عليه وعلى نفطه وموارده كما تشاء (وهذا هو الأرجح) وفعلته واشنطن لدى احتلالها للطرق وظلت تأخذ عائدات النفط في مقابل بضع ملايين من الدولارات لمن اتفقت معهم مسبقاً على ذلك، أو أن هذه المليار دولار المزعومة مجرد (وعود أمريكية فقط)، لأن البنى التحتية التي أشار اليها كوث لا وجود لها في الجنوب اذ ليست هنالك – من الأساس – بنى تحتية ولا أمنية لأنه لو كانت بالفعل هناك هذه البنى لما عجزت حكومة الجنوب عن توفير الخدمات الأساسية من صحة وتعليم وغذاء ومياه شرب، ولا عجزت عن معالجة الصراعات القبلية الدائمة، وهجمات جيش الرب، والفوضى العارمة الجارية هناك. وهكذا فإن الحركة الشعبية قطعت أدنى درجات الشك في النفوس باقرارها بهذا الأمر الخطير، فهي واقعة في (حضن) الولاياتالمتحدة، وباعت واشترت وقبضت أو سوف تقبض ثمن بيع الجنوب، وتلك لعمري جريمة وطنية لا تغتفر!!