عند نهاية الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام الشامل كان للحركة الشعبية عبر قطاع الشمال وجود عسكري وسياسي وتشريعي في دولة الشمال . الكيان العسكري المفترض إنهاؤه إما بالانسحاب جنوبا أو من خلال آلية الدمج والتسريح وإعادة التأهيل ما لبث ان تمرد وشن الحرب علي الدولة في كل من جنوب كردفان والنيل الأزرق وتجري الآن عمليات تصفية بواسطة القوات المسلحة التي تصدت للقوات المتمردة وألحقت بها هزائم كبيرة وحولتها الي فلول وجماعات صغيرة دون فاعلية عسكرية عالية . الوجود السياسي ممثلا في حزب الحركة الشعبية المسجل بمقتضي قانون الأحزاب السياسية لسنة 2007م والدستور الانتقالي لسنة 2005م تلقثي ضربة موجعة عندما أعلن مجلس شؤون الأحزاب عدم شرعية الحزب بصورته القديمة بعد قيام دولة الجنوب مثله مثل أي تنظيم سياسي جنوبي أخر فقد صله الولاء والارتباط بدولة الشمال . بيد ان الحزب رغم إلغاء تسجيله ما زال لديه تمثيل برلماني لا يستهان به خاصة في المستوي الولائي اذا فاز في انتخابات المجلس التشريعي لولاية النيل الأزرق بتسعة عشر مقعدا من جملة ثمانية وأربعين وحصل في انتخابات المجلس التشريعي لجنوب كردفان علي واحد وعشرين مقعدا من جملة أربعة وخمسين مقعدا بالإضافة الي بضعة مقاعد قومية بالمجلس الوطني . هؤلاء الأعضاء فازوا في انتخابات عامة ويمثلون قطاعا معتبرا من المواطنين داخل المؤسسات التشريعية القائمة ويتمتعون بشرعية دستورية قانونية فضلا عن غطاء سياسي في إطار الاسس الديمقراطية والتعددية السياسية المعمول بها في البلاد . المعضلة القانونية تتمثل في بقاء ومشروعية نواب بالمؤسسات التشريعية بنتمون الي تنظيم سياسي لم يعد قائما ولا مسجلا . ويزيد من صعوبة التكييف الدستوري لهؤلاء النواب ان قانون الانتخابات القومية لسنة 2008م بل والنظام الانتخابي المعمول به في البلاد يقتصر الترشيح للانتخابات علي نوعين لا ثالث لهما من المرشحين فإما ان يكون المرشح منتسبا الي حزب مسجل أو مستقلا وكلا الصفتين لا تتوفر في نواب الحركة بعد إلغاء تسجيل الحزب .أعمال نصوص القانون بصورة آلية وحرفية دون حكمة سياسية تأخذ مجمل الأوضاع الراهنة للبلاد في الحسبان يؤدي تلقائيا الي إسقاط عضوية نواب الحركة وينطوي هذا الخيار علي عواقب وخيمة سياسيا وعلي نتائج غير عادلة قانونيا . العواقب السياسة تتمثل في الخلال بفلسفة إدارة التنوع وتغييب تمثيل بل وإقصاء مكونات جغرافية وثقافية وحضارية واثنيه أساسية ومهمة في معادلة التوازن والمشاركة والعدالة الاجتماعية ورتق النسيج الاجتماعي والوحدة الوطنية والسلام الأهلي . من هنا جاءت الدعوة للحل الوسط وهو فتح المسارات والدفع في اتجاه الخيار الوحيد الممكن والمقبول أي توفيق أوضاع الحركة الشعبية وتمهيد الطريق أمام عودتها للإجماع الوطني بعد عزل قياداتها المتمردة . توفيق الأوضاع مصطلح فضفاض في نظامنا القانوني ويعني ببساطة اتخاذ التدابير وإجراء التعديلات علي المراكز القانونية للأشخاص الطبيعيين أو الاعتباريين لضمان الانسجام مع الوضع الجديد والمستجدات والوضع الجديد هنا إلغاء تسجيل حزب الحركة الشعبية والذي لا خلاف حول سلامته من الناحية القانونية بعد ان أصبح 90%من قيادة الحزب وعضويته مواطنين بدولة أجنبية فضلا عن مخالفة الحزب لشرط عدم الاحتفاظ بتشكيلات عسكرية وعدم ملائمة برنامج الحزب الأصلي ووسائله (الكفاح المسلح )مع دستور البلاد ونظامها العام الأمر الذي يقتضي الشروع في تسجيل حزب جديد باسم وبرنامج وأهداف ووسائل وقيادات مختلفة ومبرأة من العيوب الجوهرية التي أدت الي سحب المشروعية عن الحزب القديم . ومما يدعم بقوة خيار التوفيق هذا ان إسقاط عضوية نواب الحركة –وعلي الأقل الراغبين في الاستمرار والعمل بجانب إخوتهم من داخل المؤسسات التشريعية –فيه ظلم بين علي هؤلاء النواب لأنهم عندما اكتسبوا العضوية كانوا ينتمون الي حزب مشروع وفي إسقاط عضويتهم بعد إلغاء تسجيل الحزب تطبيق للقانون بأثر رجعي وحرمانهم من حق مكتسب نالوه بتفويض شعبي ومن المبادئ القانونية الراسخة إلا تعود التعديلات اللاحقة بالضرر علي المزايا المكتسبة قبل التعديلات والتي تم الحصول عليها بطريقة قانونية وصحيحة وباستقراء تجاربنا الماضية لا نجد حالة ذات ملامح مشابهة الا سابقة طرد نواب الحزب الشيوعي السوداني من الجمعية التأسيسية عام 1965بعد تعديل المادة (5)من الدستور وحظر النشاط والفكر الشيوعي بيد ان الفرق الكبير بين الحالتين يتمثل في مسألتين ..الأولي ان عام 1965لم يكن هناك قانون لتسجيل الأحزاب والمسألة الثانية ان إسقاط عضوية النواب الشيوعيين لم يتم تلقائيا بتعديل الدستور لكنه تم بعد إصدار قانون (حل الحزب الشيوعي السوداني لسنة 1965والذي نص صراحة علي إسقاط عضوية أولئك النواب . نخلص مما تقدم الي ان التوجه السليم والمعالجة الصحيحة لإشكالية نواب الحركة الشعبية هي إيجاد صيغة لاستمرارهم كأعضاء بالبرلمان عن حزب الحركة الشعبية بعد توفيق أوضاع هذا الحزب وإعادة تسجيله من جديد بصورة تتماشي مع الدستور والقانون . توجد بالطبع صعوبات فنية تعترض هذا الحل يمكن تجاوزها الصعوبة الجوهرية تتعلق بالنص الدستوري الذي يسقط العضوية في حالة تغيير اللون السياسي لعضو البرلمان وهذا النص مستحدث ولم يكن معمولا به في نظامنا الدستوري من قبل والحكمة منه واضحة وهي الحيلولة دون تبديل النواب –بعد فوزهم –لألوانهم السياسية وانتمائهم الحزبي الذي خاضوا الانتخابات باسمه وتحت برنامجه . تجاوز هذه العقبة يمكن ان يتم بواحدة من وسيلتين :الأولي هي التفسير المرن لعبارة (تغيير اللون السياسي) بحيث يعتبر نواب الحركة الحاليون نوابا لحزب الحركة الجديد رغم ما ادخل علي أدبياته ووثائقه من تعديلات علي أساس ان الحزب الجديد جوهريا هو امتداد للحزب القديم لكن بصورة تتماشي مع الواقع الراهن لدولة الشمال بعد انفصال الجنوب . والوسيلة الأخرى هي إجراء تعديل في قانون الأحزاب السياسية او قانون الانتخابات او لائحة المجلس الوطني واللوائح التشريعية للمجالس الولائية بحيث لا يترتب علي تغيير اللون السياسي إسقاط للعضوية اذا اتخذ التحول من حزب الي أخر شكل الانشقاق الجماعي لتيار أو توجه يسنده ثقل برلماني وليس مجرد تصرف فردي من نائب او اثنين لأسباب شخصية أو ذاتية . هذه التفرقة المهمة او المبنية علي طبيعة ومصداقية وحجم الانتقال من حزب الي أخر هي المعمول بها في الهند اكبر الديمقراطيات الحديثة في العالم اذ يسمح قانون الانتخابات الهندي –المعني بتسجيل الأحزاب ونشاطها –بتغيير اللون السياسي واستمرار العضوية في البرلمان اذا كان عدد النواب المنتقلين ثلاثة أو أكثر . هذه الحلول التي نقترحها أو غيرها مما قد يراه غيرنا من أهل التجربة والمعرفة تعتمد في نجاحها علي توفر إرادة سياسية قوية تدفع في اتجاه تشجيع منسوبي الحركة الشعبية علي العودة الي حضن الوطن وحظيرة الإجماع القومي ..مما يحمد للقيادة السياسية للدولة ولحزب المؤتمر الوطني الحاكم إدراكهم المتقدم لهذه المسألة وفهمهم العميق لجدوي ومالأت توفيق أوضاع الحركة الشعبية ..وقد تجلي ذلك بصورة قوية في الخطاب السياسي المتوازن المعتدل بل والحكيم لهذه القيادات في أكثر من مناسبة بدءا من خطابي السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية ومولانا هارون في الجلسة الافتتاحية للمجلس التشريعي لولاية جنوب كردفان وكذلك تصريحات الدكتور نافع علي نافع مساعد رئيس الجمهورية ونائب رئيس المؤتمر الوطني لشؤون الحزب عقب اجتماعات المجلس القيادي الأخير . نقلا عن صحيفة أخبار اليوم بتاريخ :13/10/2011