تحليل سياسي رئيسي قدمت حكومة جمهورية جنوب السودان – الجمعة الماضية – عرضاً للحكومة السودانية لحل النزاع القائم بينهما على مثلث أبيي الحدودي. العرض الجنوبي الذى ورد على لسان أمين عام الحركة الشعبية باقان أموم تمثل فى ان تتنازل جمهورية جنوب السودان عن متأخرات النفط لدي حكومة السودان للفترة الماضية، وبيع حكومة الجنوب النفط للسودان بأسعار مخفضة مع تقديم دعم مالي مقدر فى مقابل ان يتنازل السودان عن منطقة أبيي لتصبح جنوبية! الحكومة السودانية من جانبها سارعت برفض العرض جملة وتفصيلاً واعتبرته (رخيصاً) وقطعت بأنها لن تتنازل عن المنطقة بأي ثمن كان. ذات العرض والذي أوردته وكالة رويترز رفضته قبائل المسيرية أحدي أهم واكبر القبائل المقيمة فى منطقة ابيي، حيث قال القيادي حريكة عز الدين ان أبيي شمالية وستظل شمالية. ويبدو هذا العرض الجنوبي الذى يثير قدراً غير قليل من الدهشة والاستغراب فى ظل تعقيدات تزداد يوماً بعد يوم بشأن هذه القضية، إذ ان الحركة الشعبية الحاكمة فى جنوب السودان عقدت القضية منذ ان رفضت فى العام 2009 إجراء الاستفتاء على المنطقة أسوة باستفتاء جنوب السودان واستناداً الى نصوص اتفاقية السلام الشاملة و بروتوكول أبيي، وجاء رفض الحركة إجراء الاستفتاء -كما هو معروف وثابت- بسبب اعتراضها الصريح لمشاركة قبائل المسيرية فى العملية علي الرغم من ان النص الخاص بالاستفتاء ينص على مشاركة كل قبائل المنطقة والمسيرية جزء مقدر من هذه القبائل ! و لهذا فان أى عروض او مقترحات تقدم فى هذا الصدد – بعيداً عن عملية الاستفتاء – تبدو غير معقولة وغير منطقية لأن المتفاوضين فى نيفاشا 2005 لو كانت لديهم حلول او مقترحات للحل لتوصلوا إليها ولكنهم رأوا ان أفضل حل ديمقراطي وعادل هو الاستفتاء والشئ الغريب حقاً هنا، انه وفى الوقت الذى قبل فيه القادة الجنوبيين باستفتاء انفصال الجنوب كممارسة ديمقراطية وحصلوا بموجب ذلك على دولة مستقلة أول من اعترف بها السودان، فإنهم يمانعون فى إجراء استفتاء أبيي بدون أسباب منطقية ويتحايلون على ذلك بإيراد مقترحات مثيرة للسخرية. ولئن اعتبرنا ان أموم فى هذا العرض معبراً عن وجهة نظر رسمية جنوبية مع كونه لا يشغل منصباً تنفيذياً رسمياً فى حكومة الجنوب فوهو مجرد أمين عام للحزب الحاكم فان من المؤكد ان الرجل يمثل وجهة نظر الحكومة الجنوبية وإلاّ لسارعت حكومة الجنوب لنفي العرض او التنصل منه، ومع ذلك فان منطق البيع والشراء المقدم هذا يمكن ان نلاحظ عليه عدة أمور كلها ليست فى مصلحة جمهورية جنوب السودان. أولاً، يبدو ان حكومة الجنوب تعزف على وتر ما ظهر لها من أزمة اقتصادية يعيشها السودان وهى أزمة عادية عابرة بفعل الانفصال من الطبيعي ان تحدث ولكنها لن تدوم الى الأبد بالطبع، وهذا ما يجعل العرض الجنوبي مستفزاً للجانب السوداني ومن المستحيل تماماً ان يقبله . ثانياً، ان فكرة بيع الارض بما فيها من موارد بشرية واقتصادية فكرة غير متعارف عليها عالمياً، وليست هنالك من بين سطور التاريخ السوداني مطلقاً سابقة كهذه تصلح للإستناد عليها وان اقصي ما ظل السودان يقترحه بشأن منازعته الحدودية مع أى دولة مجاورة هو جعل المنطقة المتنازع عليها منطقة تكامل لصالح البلدين بحيث يستفيد شعب البلدين منها ولا يتأثر بالنزاع ومآلاته. وأخيراً، فان مثل هذه المقترحات دون أدني شك بمثابة حالة يأس من الجانب الجنوبي جراء انسداد أفق الحلول الممكنة ولم يتسبب فى هذا الانسداد سوي الجانب الجنوبي وحده برفضه للاستفتاء !