يجد العديد من خبراء القانون والمراقبين والمحللين السياسيين صعوبة بالغة جداً فى أخذ مذكرات الاتهام وقرارات التوقيف التى تصدرها محكمة الجنايات الدولية بحق مسئولين سودانيين مأخذ الجد. فالقضية فى مجملها تبدو مثل المزحة الثقيلة، او الهزر، ذلك ان الطريقة التى يتبعها مدعي عام المحكمة فى استصدار مذكرات للتوقيف والتوقيتات التى يتخيرها بحيث تبدو الظلال السياسية فيها ماثلة للعيان، باتت تقدح تماماً فى مصداقية المحكمة وحيدتها ونزاهتها. فالطلب الأخير الذى قدمه أوكامبو – قبل يومين – للمحكمة طالباً فيها إصدار مذكرة توقيف بحق وزير الدفاع السوداني الفريق عبد الرحيم حسين أورد فيه المدعي الدولي ان الجرائم المشتبه فى تورط عبد الرحيم حسين فيها وقعت فى إقليم دارفور فى الفترة ما بين أغسطس 2003 ومارس 2004م، فلو افترضنا بالفعل ان هذا الاتهام او الاشتباه جاد وحقيقي فان سؤالاً جوهرياً سرعان ما يفرض فسه هنا بقوة، وهو : ما الذى جعل الادعاء يتأخر كل هذه الفترة (حوالي 8 سنوات) ولا يتقدم بطلبه سوي الآن ومع ان الخارجية السودانية أجابت فى بيانها الذى أصدرته تعليقاً على ذلك – الجمعة الماضية – أجابت عن السؤال بأن المدعي العام درج على اختيار توقيت تكون فيه القوات الحكومية أحرزت انتصارات على المتمردين، وتكون فيه هناك اتفاقية سلام وتحسن فى الأوضاع، وهو بالفعل ما تكرر غير ما مرّة بشأن المذكرات السابقة التى طالت كل من احمد هارون وعلى كوشيب والرئيس البشير، ومع كل ذلك إلا أننا نستشف عدة أمور إضافية ربما لم يسعف الوقت الخارجية السودانية الإشارة إليها فى بيانها الموجز، وهذه الأمور تتمثل فى أسئلة موضوعية. أولاً إذا قلنا ان تأخر أوكامبو طيلة هذه السنوات بحثاً عن أدلة فان المدعي الدولي بهذه المسلك أثبت ان مكتبه (عديم الكفاءة) ويفتقر الى الحد الأدنى من المهنية حيث لا يستقيم عقلاً عن يستمر جمع أدلة ل(8سنوات)! فلو ان الامر يتعلق بالبحث عن شهادة شهود،فان الاستماع الى شهود على أحداث جرت قبل7 أو 8 سنوات يثير التشكيك في أمرين؛ إما ان الشهود جري دفعهم دفعاً (إغراءً وإكراهاً) للإدلاء بشاهدات، أو أن هؤلاء الشهود أدلوا بشاهدات غير مطابقة للواقع، لأن فترة 8 سنوات دون أدني شك طويلة لإستعادة أحداث تفاصيل وحقائق من المستحيل ان يتمكن الرجل العادي – فى نظر القانون – من الإحاطة بها جيداً؛ بل ان السعي للبحث عن شهود و ترغيبهم فى ذلك بالحماية والسفر على نفقة المدعي العام وتوفير ملاذ آمن، قمين بفتح الباب واسعاً لكل من يأنس فى نفسه الرغبة للإدلاء بشهادته وفى العادة فان القانون يتحاشى دائماً شهادة الشهود التى تأتي متأخرة أو بعد مدة طويلة، فهنالك افتراض المصلحة، وتبدل الأحوال والشبهات والتقلبات السياسية. وإذا قلنا ان الامر يتعلق بجمع الأدلة من (مسرح الجريمة) هو فى هذه الحالة إقليم دارفور فان أى معتوه لا يمكنه ان يصدق وجود مسرح جريمة ل8 سنوات دافئاً، كل شيء فيه كما كان بحيث يتيح للسيد المدعي العام أخذ ما يريد من أدلة ليقدمها للمحكمة! من الواضح ان اتهام مبني على أحداث جرت قبل 8 سنوات هو اتهام محاط بكم هائل من الشكوك والشبهات ولهذا قلنا ان اقل ما يمكن ان يوصف به مسلك المدعي الدولي في هذا الصدد هو انعدام الكفاءة المهنية؛ هذا كله على افتراض ان الإجراءات التى اتبعها إجراءات قانونية بحته وليست إجراءات مختلطة بالسياسة. ومن جانب آخر – وهو جانب أشد غرابة من سابقه – فان المدعي العام وجه الاتهام أولاً للوزير أحمد هارون، ثم على كوشيب ثم بعد أشهر طوال وجه اتهاماً للرئيس السوداني، ثم هاهو ان يعود ليقدم اتهاماً للوزير حسين! هذا القفز من مربع لآخر هو فى حد ذاته يثير الشكوك، فكيف يوجه الاتهام لوزير الدولة أولاً (احمد هارون) ويتم بعد حوالي 3 سنوات توجيه الاتهام للوزير حسين؟ وقبل ذلك يوجه الاتهام للرئيس البشير! الامر يبدو فى غاية الغرابة ذلك ان المدعي العام يتهم هؤلاء المسئولين بجريمة او بجرائم مترابطة - على حد زعمه - طبعاً، وإذا كان كل هؤلاء اشتركوا فى ذلك الوقت العام 2003 فان من الغريب حقاً ان تتناثر اتهاماتهم وتتقاطع بهذا الشكل اللهم إلا إذا كان الامر - كما أُشيع وقتها - مرتبط بقائمة مطولة يجري فى كل مرة استخراج اسم من الأسماء الواردة فيها - حسب الحاجة - لتأدية أغراض معينة، والراجح فيما نري ان الامر كذلك، ولهذا فان أحداً لا يساوره القلق حيال المذكرة الحديثة طالما أن الامر فى مجمله مجرد سياسة يتم إلباسها – قسراً – ثوباً قضائياً ساتراً لجسد السياسة !