لن يخالج أحداً الشك ان مسارعة مدعي عام محكمة الجنايات الدولية لتقديم طلب للمحكمة – فى هذا التوقيت بالذات – لتوقيف وزير الدفاع السوداني الفريق عبد الرحيم محمد حسين وراءه هدف ما. فهكذا رسخت محكمة الجنايات الدولية سياستها القضائية طوال مدة التسعة او ثمانية أعوام المنصرمة من عمرها فى أذهان المراقبين، او إن شئنا الدقة فان مدعيها العام – لويس اوكامبو – على الأقل اختط هذا النهج وهو ان يتحرك فى (لحظة معينة) بغرض تحقيق أهداف معينة. ذلك ان المنطق السليم يقول ان هذه الاتهامات لو كانت حقيقية وسبقتها إجراءات تحقيق ثم سلمت للمدعي العام قبل أكثر من 6سنوات فان من المثير للإستغراب حقاً ان يتطاول أمد الإجراءات لكل هذه الفترة خاصة إذا علمنا – وفقاً لما يقوله خبراء القانون – او توجيه الاتهام المبدئي توطئة لتوقيف اى شخص على ذمة جريمة ما، لا يستلزم سوي اقل حد من الأدلة، تكفي فقط لتوجيه الاتهام المبدئي واستصدار مذكرة التوقيف، ومعني تطاول أمد الإجراءات ان المدعي العام لم تكن تتوفر لديه هذه الأدلة وقت تسلمه للملف ومن ثم عكف على (البحث) عن أدلة، واصطناع بيِّنات واستجلاب شهود وهى أمور -على فرض أنه قام بها- ليست مطلوبة منه فهو معني فقط بما قُدم إليه، كما أنه إدعي كمدعي عام يفترض فيه تمثيل المجتمع الدولي فى مضمار العدالة ليس مطلوباً منه تكريس كل حياته لجمع أدلة - كيفما أتفق - وهى احدي بديهيات العمل العدلي أبجدياته، فإرادة العالم لم تنصرف مطلقاً باتجاه الغوص فى بطون الأحداث لاستخلاص جرائم وملاحقة الذين ارتكبوها بقدر ما ان المطلوب هو التحقيق - التوازن المهني - فيما يقدم أمام المدعي العام وعليه ان يدقق بجدية وتفرض عليه مقتضيات المهنة الإقرار ببراءة كل من لم تتوفر بشأنه أدلة. هذه كلها افتراضات يفرضها القانون ويعرفها بداهة طلاب القانون، ولهذا فان من السهل ان ندرك ان المدعي الدولي اوكامبو تخلي تماماً عن هذا المسلك المهني وربط كل تحركاته بالسياسة، ففي الوقت الذى سعي فيه لاتهام الوزير حسين كانت كينيا تسارع لإصدار مذكرة توقيف بشأن الرئيس البشير من احدي محاكمها وكان القاضي الذى أصدر المذكرة يقر بأنه أرجأ إصدارها الى حين اكتمال نشوء دولة جنوب السودان! وفى ذات التوقيت هذا كانت وثيقة الدوحة الموقعة مؤخراً لإحلال السلام فى دارفور تتخذ طريقها للإنفاذ فى الاقليم وتحسنت الأوضاع كثيراً جداً، بل ان من المدهش ان وثيقة الدوحة – قيد التنفيذ حالياً – حوت ضمن بنودها بنداً يتعلق بالجانب العدلي والمصالحات ومعالجة كافة القضايا والمظالم (إن وجدت) ومن المؤكد ان تحرك أوكامبو الأخير هو بمثابة قطع طريق واضح وصريح على هذا العمل الكبير. أمر آخر لا يمكن إسقاطه من الحسابات هو ان اوكامبو لم يتحرك طوال هذه المدة الا حين فقدت الحركات المسلحة سواء فى دارفور او جنوب كردفان، او النيل الازرق كل أمل فى تحقيق اى انتصار – بأي درجة – على القوات الحكومية! فكأني بأوكامبو يتحرك لدفع هؤلاء المتمردين لتجديد معنوياتهم والإصرار على مواقفهم المتعنتة بما يخالف تماماً أى مسعي أمين وجاد لتحقيق العدالة . إن ارتباط تحركات اوكامبو بالنزاعات السياسية والعمل دائماً لصالح حملة السلاح لم يعد موضع جدل، ولكن الرجل الباحث عن أى وسيلة يحفظ بها ماء وجهه جراء 9أعوام من الفشل لا تفتر عزيمته ولا يتواني عن (فعل اى شيء) يحاجج به بعد ان يجمع أوراقه ويرحل عن المبني الزجاجي الأملس الأنيق فى لاهاي!