أثارت التصريحات التي أدلى بها مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص إلى السودان، برنستون ليمان، ل(الشرق الأوسط) مؤخراً بخصوص موقف بلاده من حكومة الخرطوم، عدم رغبتها – الولاياتالمتحدة - في إسقاط نظام الخرطوم أو حتى تغييره، بعد أن كان ذلك هدفاً رئيساً للكثير من الإدارات التي تعاقبت على البيت الأبيض.. أثارت العديد من التساؤلات حول مغزى وبواعث تلك التصريحات، وما إذا كانت تعبر عن رغبة أمريكية حقيقية في التعاطي الإيجابي مع الحكومة القائمة في السودان، الذي ظل على مدى سنوات طوال مصنفاً في القوائم السوداء لدى الولاياتالمتحدةالأمريكية، وقبل هذا وذاك ما إذا كان هذا الموقف الأمريكي الجديد بلغته الناعمة غير المألوفة هذه يخص أمريكا وحدها، أم أنه يمثل موقفاً للمجتمع الدولي برمته؟ المتأمل في سجل العلاقة بين الأسرة الدولية والنظام الحاكم في الخرطوم، يكشف عن مسار طويل من التأرجح ما بين عدم الاستقرار والتوتر أحياناً كثيرة والهدوء الحذر بعض الأحايين، وتجلَّت ملامح ذلك المسار الابتدائية منذ الفجر الأول لثورة الإنقاذ في العام 1989م، من خلال مشاعر التوجس والحذر التي استقبلت بها الأسرة الدولية القادمون الجدد إلى سدة الحكم في السودان. وقد اتخذت علاقة المجتمع الدولي المتوترة مع السودان، أِشكالاً متعددة، كان أبرزها الحصار الاقتصادي الذي فرض على الخرطوم عقب اتهامها بالوقوف وراء محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك بأديس أبابا في العام 1995م. والتي ظلت تجدد دورياً من واشنطن منذ ذاك التاريخ وإلى يوم الناس هذا. ثم تطورت الحالة وبلغت أوجها في العام 1998م أبان ولاية الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، التي قامت بتوجيه ضربة عسكرية جوية لأحد مصانع الدواء بالخرطوم بزعم أنه ينتج أسلحة كيماوية. وبديهي أن حكومة الخرطوم ما كان لها أن تقف مكتوفة الأيدي حيال هذا التطور السالب في صلتها بالمجتمع الدولي. فكان تقليبها للخيارات المتاحة أمامها ليستقر الأمر على توجيه بوصلة علاقاتها الخارجية صوب التنين الآسيوي (الصين)، مع الحرص على الاحتفاظ بمساحة معقولة من دفء العلاقات مع الدب الروسي المغبون أصلاً من أمريكا بسبب دورها في تفكيك الاتحاد السوفيتي والاستئثار بقيادة العالم والتحكم في مصائر شعوبه. ورغم أن الخرطوم سعت كذلك إلى تحسين علاقاتها بدول الجوار الأفريقي والعربي، وعملت على استقطاب أصدقاء جدد من الدول التي تشهد نمواً مضطرداً مثل ماليزيا وتركيا. إلا أن هذا لا يعني بأي حال أنها كانت قد بلغت مرحلة القنوط من شأن علاقاتها بأمريكا والمجتمع الدولي من خلفها، فكان استمرار المحاولات والمساعي الدبلوماسية لتغيير هذا الواقع. والتي بلغت أشدها في التعاون الأمني والمخابراتي غير المعهود ما بينها وواشنطون لمكافحة الإرهاب بعد أحداث 11/ سبتمبر الشهيرة. ويبدو أن الخرطوم لم تكتف بتعاونها المشار إليه فحسب، مع واشنطن وإنما آثرت أن تمضي بعيداً في سعيها ، فكان انخراطها الجاد والدؤوب في التفاوض مع الحركة الشعبية المتمردة بقيادة الراحل جون قرنق، وتحت رعاية أمريكية خالصة كان أبرز دلائلها وجود المبعوث الأمريكي جون دانفورث والذي أسهم بفاعلية ليس في مراقبة مسار المباحثات فحسب، وإنما حتى في صياغة البروتوكولات الست التي تأسس عليها اتفاق السلام الذي أبرم في العام 2005م بين حكومة الخرطوم والمتمردين بضاحية نيفاشا الكينية. بيد أن الحكومة السودانية ورغم إيفائها بما وعدت والتزامها بإنفاذ الاتفاق كاملاً لدرجة الاعتراف السريع بانفصال الجنوب ودولته الوليدة، إلا أنها لم تجد في المقابل من الإدارة الأمريكية السابقة بقيادة بوش الابن سوى المزيد من الإصرار على نهج العقوبات والعصا المرفوعة باستمرار، ما يعني أن حصادها كان صفراً كبيراً. بعد انتهاء أجل ولاية الرئيس السابق جورج بوش والتي شهدت عدداً من الأحداث الجسام التي أنتجها الغبن الأمريكي جراء التفجيرات التي طالت برجي التجارة بنيويورك، كحرب أفغانستان وغزو العراق. استبشر الناس خيراً بمقدم الأفريقي الأسود باراك أوباما إلى ردهات البيت الأبيض، وتمددت آمال دول كثيرة من بينها السودان بأن يشهد عهده تغييراً شاملاً في السياسة الأمريكية الخارجية، لاسيما فيما يتصل بالقارة الإفريقية التي تعود أصوله إليها لكن كل هذه التوقعات وكذا الأحلام لم تلبث أن خابت والرجل يستسلم ورغم خطابه الشهير بالعاصمة المصرية القاهرة، إلى مجموعات الضغط واللوبي الصهيوني المتحكم في مفاصل الاقتصاد الأمريكي، فلا يبدل شيئاً من سياسات ومخططات سلفه. فيمضي بالتالي بخطى حثيثة في (النهج البوشي) – إن جاز التصريف – في التعاطي مع الملف السوداني فعلاً وقولاً. هذا بالطبع باستثناء تصريحه الأخير الذي حذر فيه دولة الجنوب من مغبة دعم متمردي الشمال، والذي يعتبر وبالقياس إلى مواقف الإدارة الأمريكية خروجاً صريحاً عن النص، وربما يجيء في إطار تبدل المواقف الذي نتساءل عنه في هذه المساحة. عوامل عدة تتقاسم أجر تشكيل هذا المنهج الأمريكي والدولي الجديد تجاه قضايا إفريقيا والشرق الأوسط عموماً، على رأسها موجة الثورات الشعبية التي اجتاحت عدداً من الدول العربية بدءاً بتونس ومصر ثم ليبيا وما تشهده دمشق وصنعاء من حالة مخاض في أيامنا هذه. ومبعث الاتجاه الدولي الجديد هذا هو ما شهدته نتائج الربيع العربي من صعود مضطرد ومتنام للتيارات الإسلامية في تلك البلدان، الشيء الذي يثير مخاوف أمريكا وقلق الأسرة الدولية من تكرار التجربة الطالبانية في أفغانستان، أو تجربة شباب المجاهدين الصومالية فتصبح أراضيها مفرخاً للتطرف والغلو. * الأزمة الاقتصادية وغير بعيد عن هذا يقف الاقتصاد بدوره كعامل رئيس وباعث أساسي في ملامح التحول الذي بدأ يطرأ على السياسة الدولية حيال العالم الثالث – ذلك أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تحاصر الولاياتالمتحدة ودول منطقة اليورو، تفرض عليها إبدال سياستها الاستعلائية أملاً في أن يشكِّل الشرق الأوسط أو حتى بعض دوله كالسودان طوقاً يمكنها من النجاة. الأمر الذي يحتم عليها تغيير مواقفها على النحو الذي يرضي مكونات هذا الشرق ويحفزها على التعاون معها وفتح كافة الأبواب أمامها بالقدر الذي يعينها على تجاوز أزمتها العاصفة. * وماذا بعد؟ وعلى الرغم من ملمح الإيجابية الذي يتبدى في تصريحات أوباما التحذيرية للجنوب، وكذا تصريحات مبعوثه التي أكدت حرص واشنطون على بقاء نظام الحكم في الخرطوم.. تبرز العديد من المخاوف من ألا تبرح هذه المواقف محطات الإنشاء والحديث الشفاهي إلى سوح التنفيذ. وتستند هذه المخاوف على تجارب عديدة سابقة لحكومة السودان مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة. تلقت فيها الأولى الكثير من الوعود التي لم تجد طريقها إلى أرض الواقع، وظلت محض كلام يطلق في الهواء بغرض الاستهلاك السياسي، وترتكز هذه المخاوف كذلك من جهة على حقيقة كبرى مفادها أن معالم وموجهات السياسة الخارجية لأمريكا يتم إعدادها بعيداً عن المطابخ التنفيذية للبيت الأبيض. على كُلٍ، ولما كان ما بدر حتى تاريخه من الرئيس الأمريكي ومبعوثه إلى الخرطوم برنستون ليمان، لم يبرح محطة كونه حديثاً لا يبقى متاحاً سوى انتظار ما يحمله رحم الأيام القادمات من تطور في هذا الملف. نقلا عن صحيفة الرائد بتاريخ :8/12/2011