أثار تصريح الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الخاص بوجود الجيش السوداني فى منطقة أبيي ووصفه لهذا الوجود بكونه إحتلالاً، إستغراباً ليس فى الأوساط السياسية الرسمية فى السودان فحسب، ولكن حتى على نطاق الخبراء القانونيين فى العالم. وقد ردّت الخارجية السودانية -السبت الماضي- على كي مون بأن ما زعمه غير صحيح، وأن الجيش السوداني ينتشر شمال حدود 1956م. وقال المتحدث بأسم الخارجية السودانية السفير العبيد مروح أن وجود الجيش السوداني فى المنطقة أمر طبيعي باعتبار ان أبيي شمالية وفق حقائق التاريخ وحقائق الجغرافيا، مناشداً الأمين العام للمنظمة الدولية بتحري الدقة فيما يدلي به من تصريحات . و يبدو الموقف فى مجمله زاخراً بالدلالات والمعاني السياسية التى يصعب إيجاد تفسير منطقي واضح لها ؛ فمن جهة فإن الأمين العام الذي يفترض فيه - بداهة - الإلمام على الأقل بطبيعة النزاع فى أبيي فى حده الأدنى، أظهر جهلاً واضحاً بجوانب النزاع، ذلك ان منطقة أبيي وبصرف النظر عن أحقية أى طرف من الطرفين المتنازعين حولها تقع أساساً ضمن حدود السودان (حدود 1956) المعترف بها من قبل الطرفين والتي لا يثور جدال بشأنها ولا يمكن ان يقال بحال من الأحوال إزاء هذه الحقيقة المجردة ان وجود اى قوات سودانية داخل حدود 1956 او ضمن النطاق الجغرافي للسودان هو وجود فى غير محله، دعك من ان يوصف هذا الوجود بأنه احتلالاً، فالاحتلال هنا وفق قواعد القانون الدولي غير وارد لأن الاحتلال – قانوناً – هو وضع اليد بالقوة على أرض مملوكة لدولة أخري أو ضمن نطاق تلك الدولة الجغرافي، ولعل أصدق دليل على إنتفاء هذه الفرضية أنه لو كانت هناك قوات سودانية منتشرة على ارض جنوبية (داخل حدود دولة الجنوب) لقامت الدنيا ولم تقعد، ولقدمت حكومة جنوب السودان شكوي رسمية بهذا الصدد، ولما انتظرت حكومة الجنوب (صاحبة الحق) أمين عام الأممالمتحدة ليشير عليها بأن لها أرضاً يحتلها الجيش السوداني! من جانب ثان، فان النزاع حول تبعية أبيي – من الأساس – كان نزاعاً جري اختلاقه إختلاقاً، ولكي يتجاوز المتفاوضون الأمر فى نيفاشا 2005 قرروا أن يعهدوا بالأمر الى آلية الاستفتاء لتحديد تبعيتها عبر مواطنيها المقيمين عليها؛ ذلك ان أبيي لو كانت جنوبية لما ثار النزاع بشأنها ولما تقرر حل النزاع عن طريق الاستفتاء، ولهذا فإن من الطبيعي ان تظل كل الأمور الجارية فيها تجري كشأن ما يجري فى كافة أرجاء السودان الى حين تحديد تبعيتها بواسطة عملية الاستفتاء، أو أى آلية تسوية أخري يتوصل إليها الطرفان. صحيح ان الجانب السوداني ولأغراض حفظ الأمن منعاً لأي احتكاكات بين الطرفين وافق على انتشار قوات إثيوبية، ولكن ليس معني ذلك ان انتشار هذه القوات غلّ يد السلطة السودانية، ونقل تبعية الارض تلقائياً الى جهة أخري؛ كما ان الجانب السوداني حتى الآن ينتظر إكمال القوات الاثيوبية انتشارها فى المنطقة وهو ما لم يتم حتى الآن، وعلي ذلك فإنه وحتى لو تم نشر كامل القوات الاثيوبية فى المنطقة للقيام بمهمة المراقبة، فإن هذا لا يعني مطلقاً -وفق قواعد القانون الدولي- ان الأرض خرجت من يد السيادة السودانية. وأخيراً فإن الأمين العام – للأسف الشديد – متخلياً عن الحيدية والموضوعية المطلوبة وفق أحكام منصبه بدا منحازاً بصورة صارخة للطرف الجنوبي وأعطي إنطباعاً دولياً بأن الأممالمتحدة تتبني وجهة نظر لم يقل بها حتى الخصم نفسه، بما يشير الى ان كي مون احتل تصريحه هذا الفضاء الدبلوماسي احتلالاً أممياً غير موفق وأحدث من ثم اختلالاً فى الكيفية التى تتعامل بها الذهنية الدولية .