إبداءً منها لحسن النية الذي لا غني عنه لتسهيل عملية التفاوض، قرّرت الحكومة السودانية سحب الجيش السوداني وإعادة نشره خارج حدود أبيي. وقال المتحدث بإسم الجيش السوداني العقيد الصوارمي في بيان أذاعه التلفزيون الرسمي مساء الاثنين منتصف الأسبوع الماضي، إن القرار يجيء وفاءاً لمتطلبات أبداء حسن النية من جانب السودان أملاً في إنجاح المفاوضات الجارية في أديس أبابا، بشأن القضايا الخلافية العالقة بين السودان ودولة جنوب السودان والتي انطلقت الثلاثاء الماضية. الخطوة السودانية قوبلت بارتياح إقليمي ودولي خاصة وأن مجلس الأمن عقد جلسة طارئة – الأربعاء – لمناقشة الأوضاع بين الدولتين؛ وخاصة أن المجلس سبق وأن طالب السودان بسحب قواته من أبيي تمهيداً لنزع فتيل التوتر بين الدولتين وتوطئة لإيجاد حل مستدام للنزاع. غير أن العديد من المراقبين شككوا في نوايا الطرف الجنوبي والأطراف الأخرى المحيطة بالنزاع في ظل انحياز سافر ومريع من الجانب الأمريكي على وجه الخصوص لصالح الدولة الجنوبية لم تستطع المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن إخفاؤه ومداراته وظلت تعمل على ترسيخه. إن انسحاب الجيش السوداني من أبيي – في هذه المرحلة لا يشكل نقطة تخوُّف أو قلق من أيِّ ناحية نظرنا إليه، فالإنسحاب في حد ذاته – طال زمنه أو قصر – لا يغيِّر بحال من الأحوال من واقع المنطقة كونها منطقة متنازع عليها بين البلدين وأن آليات حل النزاع موجودة وإمكانية الحل متوفرة إذا توفرت الجدية والإرادة السياسية اللازمة. كما أن الانسحاب السوداني هو كذلك لا يدل على إقرار بتبعية المنطقة إلى هذا الطرف أو ذاك. الأمر في مجمله لا يعدو كونه تدبيراً أمنياً الغرض منه تهيئة الأوضاع لكي تحل على النحو المطلوب. من جانب آخر، فإن الوجود الأممي في أبيي رغم المخاطر التي قد تترتب على ذلك في ظل إدراكنا أن الأممالمتحدة – للأسف الشديد – ليست مبرأة من الانحياز لصالح طرف، أو استغلالها من جانب طرف دولي لصالح طرف، يكفي لمقابلة احتياجات المنطقة الأمنية وهذا يعني أن من الضروري والحال كهذه، أن تضلع المنظمة الدولية بدور كبير وجاد في إدارة الأوضاع الأمنية بالمنطقة بقدر من الحيديّة والنزاهة يكفل للطرفين حقوقهما ولا يخل بالواقع القائم. ولعل من هنا تنبع المخاوف بشأن ما قد يترتب على هذا الانسحاب، فقد دلّت التجربة أن الأممالمتحدة لا تتمتع بالقدر المطلوب من النزاهة والحيدية، وعلى سبيل المثال فإن الحكومة السودانية سبق وأن طردت من قبل الممثل الخاص للأمم المتحدة بالسودان (يان برونك) بعد أن فقد الرجل حيدته ونطاق تفويضه. وسبق لها أن استدعت الممثل الحالي إثر تصريحات كانت بمثابة تدخل في الشأن السوداني الداخلي، بل أن الممثل الخاص الحالي للأمم المتحدة صرّح قبل أيام بأن هجليج ليست أرضاً سودانية مستدلاً بتفسير خاص تبرع به من أن الهيئة التحكيمية في لاهاي لم تقرر أن هجليج تقع ضمن حدود السودان وأنها قررت أنها تقع خارج حدود أبيي. مثل هذه المواقف المنحازة قمينة بإلحاق أضرار جسيمة بالعملية برمتها بسبب غياب الحِيدة. وعلى ذلك فإن المخاوف تثور هنا بشأن احتمال قيام الأطراف بتغيير طبيعة المنطقة لصالح الطرف الجنوبي بما يقود الى ترجيح تبعيتها للجنوب عند إجراء الاستفتاء عليها. هنالك مخاوف أيضاً بشأن فرض الأمر الواقع؛ إذ أنّ الجيش الشعبي سبق وأن حاول ذلك واعتدي على القوات الأممية (اليونميس) ولم تنبس الأممالمتحدة وقتها ببنت شفّة! ولا يُستبعد بهذا الصدد أن تتيح الأممالمتحدة للجيش الشعبي الفرصة لوضع يده على المنطقة بحجة أن الأمر بيدها هي، لا في يد الجيش الشعبي ثم تسعي جوبا إلى تعقيد القضية ويطول أمدها وتراهن على عنصر الوقت. هذه المخاوف جديّة ومُتوَقعة في ظل اللعبة الدولية الكبرى الجارية في المنطقة ولكن ما يمكن أن يحول دون ذلك، يقظة الجيش السوداني ويقظة إدارية أبيي نفسها؛ والأهمّ من كل ذلك مراعاة أصدقاء السودان في روسيا والصين لهذه النقطة والنظر فيها بأقصى درجات الانتباه والتركيز.