توشك محكمة الجنايات الدولية أن تفقد دول القارة الإفريقية بأكملها بعد التجربة الفاشلة المريرة التي أدخل فيها مدعيها العام الأرجنتيني الجنسية لويس مورينو اوكامبو المحكمة التي لم ينقضِ من عمرها سوي تسعة أعوام، كان المأمول ان تترسَّخ خلال سنّي حياتها الأولي تجربة عدلية دولية معقولة إن لم تكن راشدة وجيّدة. وربما كان يكفي أن الإتحاد الإفريقي في (يوليو2011) حذر أعضائه من دول القارة من مغبة التعاون مع المحكمة بشأن اعتقال الرئيس السوداني البشير بعدما فطن القادة الأفارقة - وهم يراقبون تحركات اوكامبو - أن الجلباب العدلي الدولي، ليس سوي جلباب علي المقاس الإفريقي وحده دون سواه. ولكن رغماً عن هذا القرار الإفريقي الرسمي، فإن قادة الدول الإفريقية ما لزموا الصمت واكتفوا به، وإنما شرعوا عملياً في رفض التعاون مع المحكمة، فعلت ذلك تشاد أكثر من مرة وزارها الرئيس البشير وزار رئيسها ديبي الخرطوم. وفعلت ذلك كينيا حيث زارها البشير وحتى حين صدر من احدي قضاتها مؤخراً قراراً قضائياً مطابقاً لمذكرة الجنائية، فإن نيروبي سرعان ما سارعت بالطعن في القرار وإبتعثت مبعوثاً الي الخرطوم لإزالة آثار القرار . وفعلت ذلك دولة ملاوي واستقبلت الرئيس البشير غير آبهة بتهديدات اوكامبو، ثم هاهي يوغندا -الأكثر قرباً من اوكامبو- ينبري رئيسها موسفيني ليتساءل تساؤلاً ذي دلالة ، أوليسَ هنالك من يرتكبون الجرائم غير الأفارقة؟ موسفيني قال ذلك وهو يستشيط غضباً ويقرُّ أمام الملأ في مؤتمر صحفي عقده في ختام فعاليات قمة البحيرات مطلع الأسبوع الماضي أن لاهاي ليست سوي سيف مسلط علي الافارقة وحدهم ولذا لا مجال للتعاون معها. الرئيس الجيبوتي عمر قيلي هو الآخر قال لمجلة فرنسية في باريس الأسبوع ما قبل الماضي إنه وعلي الرغم من أن بلاده عضو بالمحكمة إلاّ انه ممتنع عن التعاون معها. ومن المؤكد أن كل من أثيوبيا واريتريا وحتى ليبيا ومصر والجزائر والمغرب مضت في ذات الإتجاه ، خاصة وان ليبيا كما رأينا امتنعت عن تسليم سيف الإسلام القذافي المطلوب لدي المحكمة، هذا التطور علي الجبهة الإفريقية حيال المحكمة هو بالقطع نتاج سلوك المدعي العام لويس اوكامبو الذي حصر كل تحركاته وبطريقة فجَّة وفاضحة في النطاق الإفريقي. لقد أراد الرجل ان يبني مجده القانوني علي أنقاض القارة الإفريقية وتطلَّع لدخول التاريخ القضائي الدولي عبر ملاحقة الرؤساء الأفارقة وذلك أمر لم يكن من الممكن ان يتحقق بعدما استدعي اوكامبو من حيث يدري ولا يدري التاريخ المظلم للإستعمار الأوربي للقارة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وحتى القرن العشرين إذ لن ينسَ الأفارقة مطلقاً تلك الذكريات السوداء الكالحة التي فعلت بهم الأفاعيل. إن خسارة لاهاي لدول القارة الإفريقية، علي الأقل فيما يخص ملاحقة الرئيس السوداني المشير البشير هي دون شك خسارة لا تدانيها خسارة، خاصة وان دول القارة تسعي لإنشاء أجهزتها الإقليمية الخاصة علي غرار الإتحاد الأوربي بما يكفل لها إستقلالاً ولو جزئياً ويبعد عنها شبح الهيمنة الأوربية. لقد كان اوكامبو بهذا المسلك المؤسف والمخزي الذي طمر به وجه العدالة في تراب السياسة وألاعيب الإستخبارات خير هادم لمبني العدالة المعنويّ، تاركاً المبني الزجاجي الأنيق ذي الملمس الناعم في لاهاي يقف كما الأطلال الأثرية الغابرة في إنتظار أن يتحول مستقبلاً لأي أغرض أخري ما عدا أغراض العدالة!