من الممكن؛ بل ربما كان من المحتم أن نقرأ التعديل التشريعي الأمريكي قيد النظر الآن في مجلسيّ النواب والشيوخ بشأن حجب المعونة عن الدول التي تستقبل الرئيس البشير لكونه مطلوباً لدي محكمة الجنايات الدولية في سياق عدة أهداف أمريكية تكتيكية، ولكن بصفة خاصة ربما أرادت واشنطن (إعطاء قدر من الأمل) لمدعي عام محكمة الجنايات الدولية المنتهية ولايته لويس مورينو أوكامبو، فكما هو معروف فإن اوكامبو يستعد الآن للرحيل عن مكتبه في لاهاي كمدعي عام بعد ما قضي (9) سنوات هناك تنتهي في يونيو المقبل لتحل محله الغامبية (فاتو مينسوتا). وكما هو معروف أيضاً فقد جعل اوكامبو من ملاحقة الرئيس البشير قضية عمره، وظل يؤكد طوال السنوات الماضية أنه سوف يجلب الرئيس البشير الي العدالة الدولية في لاهاي، بل أن اوكامبو ظل يصرّح بأن استصداره لمذكرة توقيف بحق الرئيس البشير سوف يحول دون تمكن الرئيس البشير من التحرك والمشاركة في الفعاليات الإقليمية والدولية، وكم راعه أن الرئيس البشير ظل يقوم بما يشاء من زيارات لمختلف دول العالم دون أن تعترضه مشكلة، كما راعه أيضاً أن مختلف دول العالم لم تكترث لمذكرة التوفيق ولم تأبه لها. واشنطن فيما يبدو تريد عبر ما تحاول إجراؤه الآن من تعديل تشريعي مواساة أوكامبو وإنعاش الأمل من جديد في نفسه حتى لا يغادر مكتبه العدلي في لاهاي خائباً يحيط به الفشل وتحوم حوله الخيبة، وذلك لأن اوكامبو ظل وفياً للأمريكيين في كل ما طُلب منه علي الرغم من أنّ واشنطن كانت أول من إستهانت بالمحكمة ورفضت الإنضمام الي ميثاقها؛ بل وحصلت بجرأة تُحسد عليها علي استثناءات نادرة لجنودها من ملاحقة المحكمة في أيّ شأن دولي تشارك فيه وتقع فيه جرائم تستوجب المساءلة. ويعتبِر العديد من المراقبين أن أوكامبو كان رجل واشنطن المطيع والمتميِّز بلاهاي، لكونه جعل من ملاحقة الرؤساء والمسئولين الأفارقة هدفه الأول والسامي الذي نذر له عمره، وفي ذات الوقت حرصه علي عدم مضايقتها بملاحقة القادة الإسرائيلين رغم جرائمهم الحادة التي ارتكبوها في جنوب لبنان وغزة تحت سمع وبصر العالم. التعديل التشريعي الأمريكي وإن جاء متأخراً إلاّ أنه أعاد البسمة لأوكامبو الذي ظل يشكو طوال السنوات الماضية من تحركات الرئيس السوداني لشتي ومختلف بقاع العالم وكأنّه لا وجود لمذكرة توقيف بشأنه. ولكن السؤال هو هل يجدي هذا التعديل وأوكامبو لم تتبق له سوي أيام قلائل ليرحل تاركاً خلفه ملفه المفضّل مشيعاً بلعنات العديد من دول القارة الإفريقية، علي وجه الخصوص الذين أعطاهم إنطباعا قوياً عن ماضي الاستعمار الأوربي للقارة الإفريقية ؟ لسؤ الحظ التعديل ليس غير مجدي فحسب، ولكن من الصعب أن تكفي الأيام القليلة المتبقية لاوكامبو في لاهاي لتمرير التعديل وحتي لو حدث ذلك فإن الحملة الانتخابية في واشنطن والتي من المقرر أن تنطلق بعد أسابيع ربما يغرق في بحرها الهادر التعديل الجديد ولا يتذكره أحد إلا بعد وصول الساكن الجديد للبيت الأبيض. من جانب آخر فإن التعديل نفسه يواجه صعوبات عملية لا أول لها ولا آخر، ومن المحتمل أن يدفع دول القارة الإفريقية علي الأقل لكونها هي المستهدفة بالتعديل للإنسحاب الجماعي من ميثاق المحكمة واللجؤ الي إنشاء محكمة افريقية علي غرار الاتحاد الإفريقي وأجهزته، وهذا إن حدث سيكون أمراً مفاجئاً لواشنطن وضربة سياسية موجعة للمحكمة الجنائية الدولية وربما تنهار إنهياراً كاملاً. وقد أشار وزير العدل السوداني الي هذه النقطة في خطابه أمام مؤتمر وزراء العدل الأفارقة الأسبوع الماضي المنعقد بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، مؤكداً أن الرئيس البشير يتمتع بحصانة كاملة وإستناداً الي مبدأ السيادة، يملك الحق في زيارة أيّ بلد وعلي تلك البلدان استقباله وفقاً للأعراف والتقاليد الدولية. من المؤكد أن المواساة الأمريكية للمدعي العام جاءت بغير ما يشتهي أوكامبو الذي لم يحقق طوال مدة بقائه في المنصب الدولي المرموق أيّ قدر من العدالة التي كان الأوربيون يحلمون بها حين قدَّروا إنشاء المحكمة، ولكن لا يملك اوكامبو إلا أن يلملم أوراقه ويغادر مكتبه غير مأسوفاً عليه!