يبدو جلياً أن جنوب السودان لم يتمعن جيداً في قراره وهو يقوم بخنق نفسه، أو قطع شريان حياته، فالنفط يمثل لديه 98% من الصادرات، وعائداته هي ضمان استقراره، إذ يقتطع منها الجيش الشعبي وحده 40% في صورة مرتبات وفي التقرير التالي يورد موقع (ايرن غلوبال) التابع لمكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، تحليلاً تحت عنوان (جنوب السودان.. الحياة دون نفط) نقتطف منه: فالعودة لضخ النفط من جديد عبر الخط الناقل ربما (استغرق يومين أو ثلاثة) لاستكمالها، كما يقول هجو بخيت محمود، مدير العمليات الميدانية لبترودار، وهي كونسونيوم يضم الشركات الماليزية والصينية التي تعمل في ولاية أعالي النيل.ولكن محللين مستقلين في مجال صناعة النفط يقدرون أن الأمر ربما استغرق شهراً أو أكثر.و(أي قرار بشأن استئناف الإنتاج هو بيد الشمال، فمصانع التجهيز الرئيسية قائمة في الشمال لا الجنوب، ويتعين بدء تشغيلها هي الأخرى) كما يقول ايجبرت ويسلنك، مدير مكتب التحالف الأوربي للنفط السوداني. وبعيداً عن النفط تبقي العلاقات بين البلدين متوترة حول ترسيم الحدود، والمزاعم المتبادلة باستخدام قوات بالوكالة في النزاعات علي جانبي الحدود، إضافة إلي الوضع المستقبلي لمنطقة أبيي. ووقع جنوب السودان اتفاقية لبناء خط أنابيب يبلغ طوله ألفي كيلومتر إلي ميناء لامو في كينيا، وأخري لإنشاء خط عبر أثيوبيا إلي جيبوتي علي البحر الأحمر، في محاولة للحصول علي (الاستقلال الاقتصادي) من جاره في الشمال. وسيستغرق بناء الخط إلي كينيا ثمانية عشر شهراً علي الأقل، وإن كان بعض المحللين يقدرون أن يتم ذلك في ثلاث سنوات، وبتكلفة تصل إلي ثلاثة مليار دولار. فكيف ستتكيف الحكومة مع خسارة عائدات النفط؟ تعتبر حكومة الجنوب أكبر مخدم إلي حد بعيد، وهي تعتمد علي أموال النفط لدفع مرتبات العاملين في القطاع العام، إلي جانب الجيش الشعبي المتنامي الذي يقتطع نحو 40% من موازنة الدولة. ويقّدر المحللون الأمنيون أن موازنة الدفاع لجنوب السودان تبلغ 2,1بليون جنية سوداني جنوبي، أي (600) مليون دولار، تذهب 80% منها مقابل الوفاء بالمرتبات. وأعلنت وزارة المالية الجنوبية عن خطط لمدي ستة أشهر قّدرت أن ترفع فيها مواردها المالية غير الجمركية من 13 مليون جنية جنوبي، أي 3,7 مليون دولار، إلي أربعين مليون جنية، أي 11,4 مليون دولار، من خلال تنفيذ أكثر صرامة وشدة للتشريعات الضريبية، وتضييق الخناق علي الضرائب غير القانونية، والتهرب من الضرائب. ويري وزير المالية، كوستي مانيبي، (أن ذلك ما زال لا يمثل سوي 5%، أو أقل، من إنفاق الحكومة الشهري قبل إيقاف تصدير النفط، ولكنه كافٍ لأداء بعض الخدمات الأساسية) ، ولكن تبقي هذه (الخدمات الأساسية) غير واضحة المعالم علي وجه التحديد، وأن كان قد جاء علي لسان الحكومة أن الجيش الشعبي، الذي فاز بزيادة كبيرة في المرتبات في أبريل من العام الماضي، لن يتأثر بهذه التخفيضات. والي جانب ذلك، حظر علي المهاجرين، الذين يشكلون القطاع الأكبر من التجار في المراكز الحضرية في جنوب السودان، إرسال الأموال إلي أهلهم بالدولار، كما أبلغت تعليمات مماثلة إلي الشركات ك ( ويسترن يونيون) .وأعلنت الحكومة أنها بصدد إجراء بعض (التدابير التقشفية) ، وان لم يظهر إلي العيان حتى الآن سوي القليل من هذه التدابير. وهناك مخاوف من أن يتحول نحو ثلاثمائة ألف من جنود الجيش، والشرطة وحرص الصيد، والحياة البرية، إلي خطر أمني كبير يهدد حياة المدنيين إذا جف معين الرواتب. وربما ظهرت انقسامات داخلية عرقية، وأخري بين قدامي المحاربين وأولئك المتمردين الذين ضموا أخيراً إلي الصفوف في إطار تسويات سلام، لتنقلب في خاتمة المطاف إلي ثورات جديدة. بالإضافة إلي أن الجنود الذين ستتوقف رواتبهم سيكونون أدني فعالية مما هم عليه الآن في التدخل وحسم الصراعات القبلية كتلك التي تجري في جونقلي. وخارج العاصمة جوبا، وغيرها من المراكز الحضرية، لا تلحظ سوي قدر ضئيل، إن وجد، لتأثير أموال النفط في تحسين الأحوال المعيشية أو الخدمات الأساسية. بيد أن العاملين في المنظمات الإنسانية يشعرون بالقلق من أن يؤدي توقف عائدات النفط إلي تدهور أوضاع السكان إلي حد كبير.وذهبت منسقة شؤون الإغاثة الطارئة بالأممالمتحدة، فاليري أموس، في أعقاب زيارة لها في جوبا، إلي أن (الكثيرين ستنتهي إليهم هذه الآثار، وستتزايد الاحتياجات الإنسانية لا محالة، ولن يكون تضافر جهود الحكومة والجهات الداعمة والمانحين كافياً، ولا يمكن بحال تجاهل أبعاد هذه الأزمة، فالأوضاع في البلاد عامة غير مستقرة، وحدوث تدهور مريع هو أمر حقيقي ماثل). وكانت الأممالمتحدة وشركاؤها قد ناشدوا المجتمع الدولي توفير 763مليون دولار لجنوب السودان في عام 2012م، وحذرت أموس من (عواقب وخيمة) إذا لم يتم تعزيز جهود الحكومة والمنظمات الإنسانية، وتوفير الإمدادات قبل حلول موسم الأمطار. ونسبة لتفشي الصراعات، وتدني الإنتاج، وتزايد الطلب، وارتفاع الأسعار، فإن هناك الآن نحو 4,7 مليون يفتقرون إلي مظلة الأمن الغذائي بجنوب السودان، ولم يكن عدد هؤلاء يزيد علي 3,3 مليون في عام 2011م، وفقاً لتقديرات أضطلع بإعدادها برنامج الغذاء العالمي ومنظمة الأغذية والزراعة. واقترن بالتقديرات تحذير من أن يلحق بهذا العدد مليونا نازح إذا استمر الصراع الدائر في دفع المزيد من السكان إلي الهجرة بأعداد غفيرة. وسيزيد الطلب علي المواد الغذائية إلي حد كبير إذا رحل مئات الألوف من الذين ينحدرون من أصول جنوبية من الشمال بعد المهلة التي حددتها الخرطوم وتنتهي في ابريل القادم، وقاد الصراع في النيل الأزرق وجنوب كردفان إلي ارتفاع حاد في أعداد اللاجئين الذين يعبرون الحدود إلي الجنوب. ويقدر العجز في الجنوب لهذا العام بأكثر من 470ألف طن متري، أي ما يقارب من نصف متطلبات الاستهلاك منها هذا العام. وإضافة إلي بؤس موسم الحصاد، فإن الإمدادات الغذائية قد تعثرت بغلق الحدود مع السودان، ورداءة الطرق، وارتفاع أسعار الوقود، وماشهدته العملة الجنوبية من انخفاض، وأدي ارتفاع تكاليف الحياة بالفعل إلي احتجاجات وأعمال شغب قادها الطلاب. وقد تتزايد أعباء منظمات الإغاثة حالما تحل التخفيضات الحكومية المتوقعة، كما أن الشكوك تحيط أيضاً ببعض البرامج في التعليم مثلاً، حيث يعتمد تمويل الجهات المانحة علي مساهمات الحكومة، ولكن يتعين أن تعلق القرارات الخاصة بالتكيف مع الأوضاع الجديدة حتى تعلن الحكومة عن تفاصيل تدابيرها التقشفية. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 21/2/2012م