لم يخسر السودان شيئاً فى معركة هجليج وتداعياتها وأبعادها المعقدة التى من المنتظر أن تكلف الحكومة الجنوبية الكثير والكثير جداً على المديين القريب والبعيد. فقد كان السودان فى موقف المُعتَدي عليه، لم تستطع جوبا رغم كل ما إدّعته وزعمته أن تثبت أن اعتدائها على هجليج كان قائماً على أساس قانوني أو سياسي أو حتى كان ردة فعل على فعل سوداني، فقد تمترست حكومة الحركة الشعبية وراء زعم غريب أدهش حتى الساسة والمواطنين الجنوبيين من أنّ هجليج هى منطقة جنوبية وأن الخطوة التى قامت بها جوبا لإسترداد هذه المنطقة الجنوبية وإعادتها الى الحضن الجنوبي. كان واضحاً – حتى مع ضعف السند القانوني والسياسي فى هذه الحجة المضحكة – أن جوبا مشوَّشة العقل، مضطربة الأفكار، ضعيفة المنطق، إذ أنه حتى ولو كانت هجليج مدينة جنوبية ، فإن إستعادتها لدولة الجنوب لا تتم عبر عملية احتلال وبالقوة العسكرية؛ فلا القانون الدولي يجيز ذلك ولا الأعراف الدولية ولا دواعي حسن الجوار تمنح جوبا ذلك الحق. من هنا ضَعُفَ الموقف الجنوبي إجمالاً، وزاد من سوءه أن جوبا بدأت تتخبط عقب عملية الاحتلال، حين بدأت تطالب بمقايضة المنطقة بأبيي، وتارة تطالب بإستجلاب قوات دولية ثم كان آخر طلب لها – قبل أن تلحق بها الهزيمة – هو الحصول على ضمانات وخروج آمن من المنطقة. هذا الاضطراب فى المواقف هو أكبر دليل على غياب عنصر الحق والحجة، ولهذا فإن المرحلة المقبلة ستكون أسوأ مرحلة تمرّ بها حكومة جنوب السودان وسوف تترتب عليها مترتِبات ما كانت لتترتّب لولا تصرفاتها الخرقاء هذه . فمن جهة فإن من الصعب إن لم يكن من المستحيل أن تدخل الحكومة السودانية فى مفاوضات بالصورة القديمة التى سبقت الهجوم على هجليج، فتلك صفحة قد انطوت وزمن قد انقضي حيث يتعيّن على جوبا فى المرحلة المقبلة أن تقرّ أولاً وصراحة – أنها قد ارتكبت خطأ فى حق السودان بإحتلالها لمدينة سودانية ليست موضع نزاع على الإطلاق, وليس للدولة الجنوبية أىّ عنصر حق فيها. هذا الإقرار الجنوبي ضروري لمنع تكرار الحادثة مستقبلاً ولوضع أساس متين لمستقبل علاقات البلدين. الأمر الثاني أن جوبا – بتصرفها هذا – لم تعد موضعاً لثقة السودان بحال من الأحوال وهذا يستلزم أن تتحمّل – حتى ولو لسنوات طوال – مترتبات عملية إعادة بناء الثقة والتي قامت بهدمها بتصرفاتها الرعناء غير السوية، وهذا بدوره يتطلب عدم مكافأتها علي عدوانها، حيث لا مجال لإتفاق الحريات الأربعة, ولا مجال حتى لتبادل تجاري سهل ومنساب، ولا مجال حتى للتفاوض على ملف النفط بذات المعطيات السابقة. الأمر الثالث، لا بُد أولاً وقبل أىّ حوار حول القضايا العالقة حسم قضية التعويض عما إقترفته يد جوبا فى هجليج، إذ بعيداً جداً عن المقاضاة، بالإمكان إرغام جوبا على سداد التعويضات اللازمة كشرط لازم وضروري قبل النقاش والتحاور حول أىّ ملف خلافي بين البلدين؛ بل بوسع الخرطوم أن تقصِر الحوار كله فى المرحلة المقبلة فى نقطة واحدة فقط وهى التعويض المادي المباشر والإعتذار العلني عن ما جري فى هجليج، لأن المطلوب هنا هو إشعار جوبا –بقدر عالي من الجدية – أنها ارتكبت خطأ العمر الذى لا يُغتفَر وعليها تحمُّل ثمنه الباهظ. وأخيراً فإن للخرطوم الآن، عشرات الأوراق الصالحة للتداول، والتي باتت تشكل عبئاً على الجانب الجنوبي بصورة لم يسبق لها مثيل تكفي واحدة أو إثنين منها لوضع الحكومة الجنوبية فى حجمها ووزنها الصحيح! حيث لا تفاوض قبل إزالة آثار العدوان!