تحدثت في الحلقة الماضية عن التركيز من قبل القيادات في الشمال والجنوب على احتمالات الانفصال.. واتخذت من ذلك مدخلا لتوضيح مضار الانفصال على الشمال والجنوب على السواء وقلت إن من مضار الانفصال أن الصراعات والاقتتال القبلي بالجنوب سنجدها سببا مباشرا لتعكير صفو العلاقات بين الدولتين والوصول بها إلى الحرب.. وذلك لأن شمال السودان سيكون هو المتهم بتفجير الخلافات وتصدير السلاح إلى بعض القبائل وتحريضها وسيشتكونه لمجلس الأمن.. وهنالك دول جاهزة لتبني مثل تلك الشكوى رغم علمها بأنها باطلة.. وقلت أن الصورة الواضحة اليوم للعلاقات بين القبائل والصراعات القبلية بالجنوب لا تبشر بأن الاتفاق ممكن بين قبائل الجنوب على حكومة موحدة.. ومن هنا فإن هنالك الكثير من القبائل تشعر بالغبن وبسيطرة قبائل محددة على الوضع والامتيازات.. وبالتالي ستثور تلك القبائل وتندلع الحروب الأهلية داخل الجنوب بصورة مأساوية.. ولن تتمكن أمريكا ولا غيرها من الذين يضغطون الآن على قيادات جنوبية لتقبل بالانفصال أن توقف حالة الاقتتال القبلي والتفلتات الأمنية. ثالثا: هنالك عدد كبير للغاية يقدر بالملايين من أبناء الجنوب موجودين بالشمال وعدد قليل من الشماليين بالجنوب.. وفي حالة الانفصال هنالك مشكلات كبيرة ستواجه عودة جنوبيي الشمال إلى الجنوب والتجربة واضحة أمامنا الآن حيث قامت الأممالمتحدة بترحيل عدد من الجنوبيين بالشمال إلى الجنوب ولكن الكثيرين منهم لم يستطيعوا الاستمرار هناك وعادوا سريعا إلى الشمال حيث لم يجدوا عملا ولا فرصة لكسب العيش فعادوا مرة أخرى.. وهذا دليل على أن الوضع في الجنوب في الوقت الراهن لا يحتمل الانفصال.. فهنالك ضعف في البنيات الأساسية وعدم وجود موانئ بحرية.. وضعف إداري.. وفقدان الكثير من مقومات الدولة المستقلة.. والاعتماد على أمريكا وإسرائيل في التنمية والبناء مجرد حرث في البحر.. فهؤلاء يأخذون فقط ولا يعطون.. والدليل واضح أمامنا في العراق وأفغانستان.. حيث كانوا يتحدثون أيام الغزو عن إعادة الإعمار ثم سكتوا عن ذلك.. فهم قد دمروا كل البنيات الأساسية بالبلدين ووقفوا بعد ذلك يتفرجون و(يسرقون الثروات) !! رابعا: إن تجربة العالم اليوم تسير باتجاه التكتلات والكيانات الكبرى وقد فهمت أهمية ذلك حتى البلدان المتقدمة فرأينا شعوب أوربا تسير نحو الوحدة وهنالك تكتلات في آسيا وأمريكا الجنوبية والشمالية تسير بذات الاتجاه، إذ أن الكيانات الصغيرة المعزولة لن تتمكن من حماية مصالحها أمام (الغيلان) التي تهدد عالم اليوم.. ومن هنا فإن التفكير في الانفصال في الوقت الراهن ضد منطق التاريخ وتجربة البشرية جمعاء وهو بمثابة ورود المهالك.. خامسا: هذا بالنسبة للجنوب أما بالنسبة للشمال فإن هنالك منطق قوي يقول بأن الشمال تضرر من العلاقة مع الجنوب وتحمّل الكثير من الأذى ودفع ثمنا غاليا على حساب تطوره وتنميته، ولكن في نفس الوقت فإن كل ذلك لا يبرر الانفصال إذ أن للانفضال مضاره أيضا على الشمال.. إن مخططا إسرائيليا انضمت إليه أمريكا يسعى منذ أكثر من أربعين عاما لتقسيم السودان إلى دويلات.. وفي الوثائق المنشورة على الانترنيت أنهم يستهدفون تقسيم السودان إلى خمس دويلات أو أكثر كمشروع متكامل مع مشروع ما يسمونه (بالشرق الأوسط الجديد).. والسعي لفصل الجنوب مسعى أمريكي إسرائيلي بحت ليس فيه مصلحة للسودانيين ولا للأفارقة ولا للعرب ولا للمسلمين أو المسيحيين.. وتدفع أمريكا اليوم بقوة بهذا الاتجاه.. ومن هنا فإن الانسياق وراء مخطط الانفصال بعفوية ودون مقاومة سيقود تلقائيا إلى تسهيل مهمة أمريكا في فصل الجنوب.. وبالتالي تكون أمريكا وإسرائيل قد حققتا الحلقة الأولى والمهمة في تقسيم السودان ولن تقفا بعد ذلك عند هذا الحد إنما ستسعيان لإكمال بقية (البرنامج).. إما إذا تمت الوحدة الطوعية ففي هذه الحالة نكون قد قفلنا الطريق أمام تنفيذ بقية المخطط اللعين.. هكذا نرى أن الوحدة ليست في مصلحة الجنوب أوالشمال.. وهي في مصلحة أمريكا وإسرائيل فقط.. والجنوب سيتضرر منها غاية الضرر وكذلك الشمال.. وهنالك مخططات معروفة ولكنها (نائمة) في الوقت الراهن.. غير أن الانفصال سيكون حافزا لأصحابها لكي (يوقظونها) ويسعون لتنفيذها على أرض الواقع.. أما الوحدة الطوعية بين الشمال والجنوب فهي تحمل كل الخير للطرفين وهذا ما سيكون موضوع حلقتنا القادمة. نقلا عن صحيفة الرائد السودانية 27/1/2010م