فغرت الحركة الشعبية في جنوب السودان فاهاً؛ بذات القدر الذي فغرت به بعض الدول التي ينتمي إليها الأجانب الأربعة الذين تم ضبطهم في منطقة هجليج بواسطة دورية تابعة للجيش السوداني الأسبوع الماضي وهم يقومون بفحص بعض المخلفات الحربية، ويحملون معدات عسكرية فاهاً. الجميع فغر فاهه، لأنّ الفضيحة كانت داوية، إذ سرعان ما أثبتت التحقيقات التي أجرتها السلطات السودانية مع الموقوفين الأربعة وهم بريطاني ونرويجي وجنوب أفريقي وجنوب سوداني أنهم يعملون في مجال زراعة الألغام! وأنّ المهمة التي كُلِفوا بها هي زراعة عدد من الحقول داخل هجليج وخارجها، لصالح حكومة جنوب السودان من جهة؛ ولصالح جهات دولية أخري من جهة أخري. ولعل أكثر ما يثير الاستغراب هنا، أنه وحال القبض علي الأجانب الأربعة، بادر المتحدث باسم الجيش الشعبي للزعم بأن الموقوفين يتبعون للأمم المتحدة وهم موظفون بها. المتحدث بإسم الجيش الشعبي تحدث بقدر واضح من الاستهزاء والسخرية متوقعاً نشوب أزمة وشيكة بين الخرطوم والأمم المتحدة جراء عملية الاعتقال. ولكي يتم إحكام الخطة، فقد أوعزت ممثلة البعثة الأممية في جوبا (جوزيفين جويرير) لوسائل الإعلام بالتزامن مع حديث المتحدث بإسم الجيش الشعبي أن للمنظمة الدولية (5) موظفين مفقودين مرجحةً أن الموقوفين هم أنفسهم الموظفين المفقودين . وقد انطلي الأمر علي الكثير من وسائل الإعلام وبعض المواقع الالكترونية التي سارعت بالقول إنّ السودان وقع في فضيحة داوية باعتقاله لموظفين يتبعون للأمم المتحدة! لقد اختلط هنا عنصر الجهل بعناصر سوء النية ومحاولات التغطية والتعمية، فالموقوفين إن كانوا حقاً يتبعون للأمم المتحدة كان من السهل أن يقولوا ذلك بمجرد اعتقالهم بواسطة دورية الجيش السوداني؛ وكان من الممكن أيضاً أن يبرزوا هويتهم الدولية ليقطعوا دابر أي تكهنات أخري، ومن ثم يتم التعامل معهم باعتبارهم (تجاوزوا نطاق عملهم) فمثل هذا التجاوز أقل حدة وأثراً من أن يُقال أنهم جواسيس أو عملاء، ولكن لأنّ الحقيقة تظل أبداً ساطعة كالشمس، فإن الموقوفين الأربعة أقرّوا بأنهم مجرد عملاء لجهات معينة ومكلَفين بعمل معين. وهنا كان لابُد لمن حاولوا إيجاد (غطاء استخباري) لهم أن يفغروا فاهم. كان لابد للناطق الرسمي بإسم الجيش الشعبي أن (يبرر) أسباب تطوعه بإجابة لصالح الموقوفين لم يكن موفقاً فيها، إذ أنّ تنسيب أربعة موظفين – هكذا دفعة واحدة – لمنظمة دولية وقد تم ضبطهم في ظروف مريبة، وهم يقومون بأعمال مشبوهة أمر مستحيل؛ وقد أدي هذا الموقف لأن يفغر المتحدث بإسم الجيش الشعبي فمه ويتحسر علي تصريحاته التطوعية المخجلة! أما مسئولة البعثة الأممية في جوبا، فإن النتائج التي أسفر عنها التحقيق تُحتِم عليها أمران؛ أما أن تقرّ بأنها كذبت أو أخطأت بزعمها أن هناك مفقودين من بعثتها وأنّ الموقوفين هم المفقودين وإما أن تفصح عن مصير مفقوديها، وهل لا يزالوا مفقودين أم أنهم كانوا موجودين ولكنها اعتقدت خطأً أنهم فُقِدوا! إن الحادثة تكشف بجلاء عمق المؤامرة التي يتعرض لها السودان. مؤامرة بالغة القذارة شديدة الخسة والدناءة لا يستنكف فيها أخوة الأمس في جنوب السودان عن إلحاق أبلغ الأذي بإخوتهم في السودان بزرع حقول ألغام، وترك عملاء أجانب يعبثون بأمن واستقرار السودان. كما أنّ الحادثة تشير إلي احتقار الحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان للخصومة الشريفة التي تقتضي أن تحارب – إذا حاربت بشرف وبرجولة دون أن تستعين بأجانب وأغراب؛ فالحروب لها قواعد مثلما للسلام وللحياة العامة قواعد وتقاليد. كما أن الحادثة تُثبِت أن السلطات السودانية تتمتع بقدر جيد من اليقظة إذ أنّ ضبط أجانب، أو العلم بدخول غرباء إلي داخل حدود السودان، أو متابعة أيّ تحركات أجنبية داخل حدود السودان لم يعد أمراً يفوت علي فطنة وقدرة السودانيين فقد اكتسبوا القدرة والخبرة الكافية، وهي أمور لا تزال الحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان تعتقد أنّ السلطات السودانية لم تبلغ فيها شأواً بعيداً. أما الدول التي ينتمي إليها المضبوطين، فإنه من الصعب أن يتسامح معها السودان لأن المضبوطين كانوا يُنفِذون في عمليات إجرامية ليس هنالك ما هو أخطر منها، ذلك أن العالم بأسره يتجه منذ سنوات لمكافحة الألغام بكل ما تمثله من مخاطر علي الحياة، وما سببته من مآسيٍ وكوارث للإنسانية، فكيف يتم التسامح مع من يزرعونه من أجل المال والارتزاق!