رغم أن الصيغ النهائية قد تكون قد إختلفت وقلّلت لدرجةٍ ما من حدة النصوص التي أصدرها الاتحاد الأفريقي عبر بيانه المؤرخ ب 24أبريل 2012م والخاص بتسوية النزاع الجنوبي السوداني، والذي عملت علي تبنّيه بمجرد صدوره الولاياتالمتحدة وصاغت منه مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي؛ إلاّ أن البيان الأفريقي ومن ثم القرار الدولي كليهما فارقا جادة الصواب ومزقا قدراً كبيراً من ثياب العدالة والتوازن في المواقف؛ فقد تعاملا مع الطرفين، السودان وجنوب السودان، المجني عليه والجاني بدرجة واحدة من حيث إمكانية فرض عقوبات عليهما مستقبلاً! وهذه يمكن اعتبارها (سابقة دولية خطيرة) باعتبار أن مجلس الأمن اخترع قاعدة قانونية جديدة تنص علي معاقبة الجاني والمجني عليه علي قدم المساواة الأمر الذي لم تعرفه لا الشرائع السماوية ولا البشرية الوضعية. الأمر الثاني، أن القرارين تجاوزا (عملية الاحتلال الجنوبي لمدينة هجليج السودانية بكل ما ترتب عليها من أضرار وخسائر بشرية ومادية تجاوزاً صريحاً واضحاً) وهذه أيضاً فيما يبدو (سابقة دولية خطيرة) تتجاهل عمداً معاقبة الطرف الذي يعمل علي احتلال أرض الغير بالقوة وهذا يعني أيضاً – بحسب هذه السابقة الدولية الخطيرة – أن احتلال أرض الغير بالقوة لم يعد مخالفاً لميثاق الأممالمتحدة ومن ثم ليس مهدِداً للسلم والأمن الدوليين، ومن ثم لا يستوجب العقاب كما كان يحدث في السابق (نموذج العراق عقب اجتياحه الكويت). الأمر الثالث أن الموقف الدولي بهذه الطريقة يعمل علي محاباة دولة جنوب السودان محاباة صارخة وفجة شبيهة إلي حد التطابق بالمحاباة المعروفة التي تمارسها الولاياتالمتحدة حيال إسرائيل، وهو أمر من شأنه أن يعرقل أي جهود للاستقرار في المنطقة تماماً كما يحدث الآن في منطقة الشرق الأوسط. الأمر الرابع أن الولاياتالمتحدة – التي يُعتقد أنها وراء البيان الصادر عن مجلس السلم والأمن الأفريقي – تعمل بهذه الطريقة علي نزع اختصاص الاتحاد الأفريقي الذي يعتبر في ما يخص الشأن الأفريقي المختص رقم واحد، وهذا من شأنه أن يهيل التراب مبكراً علي التجربة الأفريقية في مجال حل النزاعات ويعيد القارة الأفريقية عقوداً إلي الوراء. أما الأمر الخامس والخطير للغاية أن هذا المسلك الذي اتبعته الولاياتالمتحدة أفرغ عملية السلام الشاملة الموقعة في نيفاشا 2005 من محتواها تماماً، وعمل إلي إعادة الطرفين – السودان وجنوب السودان – إلي مرحلة ما قبل نيفاشا، بحيث بات الأمر يتطلب تسوية سياسية تعاقدية جديدة بشروط جديدة، بظروف جديدة وهو ما يخالف الحكمة التي من أجلها شُرعت نيفاشا، فقد كان الهدف من نيفاشا كما شهدنا ورأينا هو حل النزاع المزمن بين السودان وجنوب السودان وتمكين جنوب السودان من ممارسة حقه في تقرير مصيره بحيث يصبح قراره – بالوحدة أو الانفصال – هو الحل الناجع النهائي الذي تتأسس علي هُديً منه عملية استقرار مستدامة تتخلّص فيها المنطقة من أيّ أزمات كانت في السابق تثير قلق المجتمع الدولي وتهدد الأمن والسلم الدوليين. وقد اتضح الآن بجلاء أن هدف واشنطن من عملية السلام الشاملة حين مارست دور الوسيط في بداية العملية لم يكن هو الوصول إلي حل بين الطرفين بقدر ما كان معبراً لها لخلق منطقة ذاخرة بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية؛ بل لا نغالي إن قلنا إنّ الهدف الاستراتيجي الواضح الذي ظهر الآن كالشمس هو إنتاج دولة تصبح (امتداداً) لإسرائيل تستطيع معها الأخيرة أن تمد رجليها بإرتياح وتحقق ما شاءت من الأهداف السياسية والاقتصادية والأمنية. إن الموقف بهذه المثابة يبدو أكبر بكثير جداً من مجرد محاولة لمحاصرة نظام حكم لا ترضي عنه واشنطن، فهذه أصبحت غطاء كاذب؛ الأمر كما اتضح الآن هو إفساح المجال لإسرائيل لتتمدد في جنوب السودان تمدداً مريحاً، وفي سبيل ذلك يمكن لواشنطن أن تلوي كل أعناق دول المنطقة، وتحطيم كل القواعد الدولية المتعارف عليها، وفعل المستحيل والمصيبة الأكبر أن الحركة الشعبية الحاكمة في جنوب السودان المدفوعة بغلّ سياسي غير مبِّرر تجاه السودان تنفذ بهمّة عالية هذا الهدف الأمريكي الإسرائيلي الاستراتيجي وهي لا تدري أنّ الجنوب نفسه طال الزمن أو قصُر ضحية هو الآخر لما يجري.