بدعم مباشر من كل من جوبا وكمبالا تحاول الحركات الدارفورية المسلحة إعادة إثبات وجودها داخل إقليم دارفور، فقد مضي وقت طويل للغاية غابت فيه هذه الحركات بفعل الضعف والهوان وفقدان المأوي والمنطق وإنفضاض مواطني دارفور عنها. وقد بذلت كلٌ من كمبالا وجوبا في الأشهر القليلة الأخيرة جهوداً مفضية لمحاولة إعادة إشعال الأوضاع في دارفور كجزء لا غني عنه ضمن سياق إستراتيجية زعزعة أمن واستقرار السودان، وقد كان واضحاً أن تصعيد القتال في دارفور حتى لو بصفة رمزية في خضم حراك مسلح علي الحدود الجنوبية السودانية بين دولتيّ السودان وجنوب السودان يخدم بالدرجة الأولي هدفاً جنوبياً ومن ثم هدفاً إسرائيلياً أميركياً. غير أن الواقع في دارفور رغم كل ما تحاول الحركات الدارفورية المتمردة فعله يبدو غير ما تشتهي وتريد؛ فقد حاولت حركة ميناوي كما شهدنا وبالتزامن مع الإعتداء علي هجليج احتلال مناطق قريضة، وتوغل جزء منها الي مناطق شمال دارفور، كما حاولت حركة العدل والمساواة هي الأخرى التسلل الي مناطق طويلة والمناطق المجاورة لها بشمال دارفور. كان ذاك سباقاً محموماً بين الحركات الدارفورية لمحاولة توسيع نطاق القتال وفتح المزيد من الجهات، ولكن لسؤ الحظ فإن المحاولة لم تنجح فقد وقعت هذه الحركات في ذات الخطأ المميت الذي تكرر وقوعها فيه فهي تعتقد أن الجيش السوداني منشغل بجبهة الجنوب ومناطق النيل الأزرق وأنّ من شأن إنشغاله هذا أن يوفر لها سانحة لإحداث إختراق علي الجبهة الدارفورية ومن ثم تغامر بالهجوم لتواجه ضربات قاتلة تنتبه علي إثرها بعد فوات الأوان لما هي فيه. وقد تلاحظ في الآونة الأخيرة أن الحركات المتمردة ورغم ما تلقاه من دعم يوغندي وجنوبي إلاّ أنها لجأت الي محاولة فرض رسوم وأتاوات علي أهالي بعض المناطق في شمال دارفور مثل منطقة (أبو قمرة). كان ذلك مؤشراً خطيراً علي أن هذه الحركات المتمردة لم تكتف بالدعم الأجنبي المتدفق عليها، ولكنها تريد إنتزاع دعم إضافي من أيدي وأفواه المواطنين المغلوبين علي أمرهم. وقد ضاق المواطنون ذرعاً بهذه الممارسة السالبة واضطروا للدخول في مواجهة علنية مفتوحة ضد حركة ميناوي تحديداً، مما أثار حفيظة حركة العدل والمساواة فدخلت هي الأخرى طرفاً في الصراع، ليتسع نطاق القتال ويسقط الضحايا وتتناثر الجثث وتعم الفوضى. كانت هذه المواجهة نذير شؤم علي الحركات المتمردة فقد أصبح من الصعب عليها القتال في ظل وجود المؤن والمأوي علي بُعد آلاف الأميال بعيداً عن ميدان القتال، وهو أمر لم يكن قادة هذه الحركات قد فكروا فيه جيداً فالحدود الجنوبية واليوغندية الجنوبية بالغة الطول شديدة الوعورة وهناك كلفه عالية للغاية لنقل أيّ دعم لوجستي. كما أن هذه الحركات إنتبهت وربما لأول مرة الي عمق التناقض المتجذر فيما بينها، فالقتال الذي دار بين حركتيّ العدل وميناوي أظهرَ قدراً عالياً من الغُبن السياسي المتبادل بينهما وتربُص كل حركة بالأخرى؛ ومن شأن هذا الواقع أن يعمل علي تضييق فرص تحرك هذه الحركات علي الأرض في ميادين القتال في دارفور فهي حتماً مصطدمة ببعضها وهي حتماً خاسرة لا محالة جراء الاصطدام. الأمر الآخر إن هذه الحركات المتمردة لم تعد تواجه فقط قوات الجيش السوداني أو القوات النظامية السودانية فهناك قوي مرتبطه بحركة التحرير والعدالة بزعامة الدكتور السيسي تري أن هذه الحركات تهدف لهزّ الأرض تحتها بعدما رضيت التحرير والعدالة الاتفاقية السلمية ودخلت في سلام تعاقدي مع الحكومة المركزية في الخرطوم. خلاصة الأمر إذن أن دارفور من الممكن أن تعود من جديد مسرحاً للقتال ولكن علي نحو مختلف فالمسرح سوف يضم مواجهات بين الحركات المسلحة في مواجهة بعضها بعضا في سياق تنافس محموم لمحاولة إثبات كل حركة لوجودها ؛ كما أن المسرح سوف يشهد تربص بعض الحركات ببعض القادة للتخلص منهم نظراً للمتغيرات المستجِدة التي تتطلب قادة جدد بأفكار ورؤي جديدة. باختصار يمكن القول إن مسرح القتال في دارفور سيكون مسرحاً لعراك طاحن فيما بين الحركات المتمردة ليصبح البقاء للأقوي إن كان من بينها أقوي!