خلطاً متعمَّداً للأوراق، تقوم به الحكومة الجنوبية حيال عملية التفاوض المرتقبة إذ تزعم – على لسان رئيس وفدها باقان أموم – أن الخرطوم قد إشتطرت شروطاً لبدء المفاوضات. والخلط المتعمّد هنا ناتج عن أمرين: أولهما أن جوبا التى ربما كانت على علم مسبق بتفاصيل القرار 2046 قبل صدوره عمِلَت على تغيير الوقائع على الأرض مضيفة تعقيدات جديدة للقضايا الخلافية العالقة؛ مثل إحتلالها لبعض المناطق المتنازَع عليها فى الحدود بين البلدين، ومثل إصدارها لخارطة سياسية رسمية متضمِّنة منطقة هجليج، مع أن هجليج سودانية، ومثل استمرار دعمها وتشوينها للحركات المتمردة سواء فى دارفور أو جنوب كردفان أو النيل الأزرق. هذا الوضع قامت جوبا بإستحداث الكثير فيه بعد صدور خارطة الطريق الإفريقية فى أبريل الماضي وبعد صدور قرارمجلس الأمن فى الثاني من مايو الجاري. وبالبطع لن يغيب عن بال أىِّ مراقب فى هذا المنحي، أن الحكومة الجنوبية كانت تستغِل قرار مجلس الأمن الذي ينص على التفاوض بدون شروط لتحول دون إصرار السودان على إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه، بإعتبار أنها تقع فى نطاق الشروط المسبقة، ولهذا فقد أصرّت الحكومة السودانية على ضرورة حسم الملف الأمني قبل أىّ ملفات أخري ليس من باب الإشتراط الذى يقصده قرار مجلس الأمن، ولكن من باب تصحيح الوضع الأمني كمقدمة ضرورية ولازِمة لتسوية بقية الملفات. الأمر الثاني الذى نتج عن الخلط، أن الحكومة الجنوبية إبتدعت تفسيراً غير منطقي وغير مقبول لقرار مجلس الأمن 2046 ، وهو أن يذهب الطرفان الى المفاوضات هكذا، دون إجراء الترتيبات اللازمة ووضع الأجندة وأولويات القضايا المُراد نقاشها ؛ وهذه فى الواقع هى النقطة الشائكة البالغة التعقيد، إذ يبدو أنّ (مهندسي) القرار الدولي كانوا يرمون الى وضع الأولويات فى الأجندة بحسب مصالح الدولة الجنوبية ومصالحهم هم، ولهذا وضعوا ملف النفط فى صدر الأجندة الخاصة بالتفاوض ليوحوا الى الأطراف أن القضية العاجلة المراد الشروع فى التفاوض فيها -قبل أىّ قضية أخري- هى قضية تصدير النفط الجنوبي ولذا فإن الطرف الجنوبي – وطبعاً بإيعاز مباشر من أصدقاء جوبا فى مجلس الأمن – تمسكوا بحرفية النص، ومن ثم إعتبروا أىّ حديث عن أولويات أخري بمثابة وضع لشروط مسبقة وهى مرفوضة بنص القرار نفسه! والواقع إن هذا الخلط مقصود من واضعي النص والذين صاغوه، وقد وقع الوسيط المشترك رئيس الآلية الرفيعة (ثامبو أمريكي) فى ذات المأزق حين نادي بضرورة التمسك بالخارطة الافريقية. الأمر فى جوههره يبدو محاولة لدفع المفاوضات وِفق رغبة الطرف الجنوبي ومراعاة لمصالحه كما أشرنا؛ لأنه من المستحيل تماماً أن نتصوَّر وضع نص فى قرار دولي يحدد للأطراف الذين سيتفاوضون نقاط المواضيع وأولوياتها بهذا التحديد الحاد! فلو كان الأمر كذلك لما كانت هنالك حجة للتفاوض أصلاً طالما أنه محكوم بقيود وقوالب جامدة كهذه ؛ ولكان من الأفضل أن يتولي مجلس الأمن أو الاتحاد الافريقي بنفسه حلحلة القضايا دون الحاجة لجلوس الأطراف. إن المطلوب فقط – وفق جوهر النص – هو الدخول فى مفاوضات لمناقشة القضايا الواردة فى النص ولكن ليس المطلوب التمسك بحرفية النص نقطة نقطة، وعبارة عبارة. ولهذا فإن ما تزعم جوبا أنها شروط مسبقة تنادي بها الخرطوم هى فى الواقع ليست كذلك وإنما هى رؤية لكيفية وضع الموضوعات فى أجندة التفاوض، وهى أمور ينبغي التوافق حولها كما يحدث فى أىّ مفاوضات دون أن تُعتَبر شروطاً مسبقة وإلاّ أصبحَ الأمر فى مجمله محاولة لعرقلة المفاوضات، وهو ما يُستشف بوضوح من سلوك الجانب الجنوبي أملاً فى بدائل وخيارات أخري مستحيلة.