الجمعة الماضية كان أهمّ ما أسفرت عنه المحادثات الجارية فى أديس أبابا بين وفديّ السودان وجنوب السودان هو الإتفاق – بعد طول تجاذب وشدّ – أن يكون الملف الأمني فى مقدمة الموضوعات التى تجري مناقشتها بين الطرفين. الطرف الجنوبي كان مصرَّاً على مناقشات أخري من بينها ملف النفط، ولم يكن يرِد بحال من الاحوال أن يسيطر الملف الأمني على المفاوضات . وما من شك أن أسباب ذلك معروفة، ومفهومة، فالملف الأمني يربك جوبا ويغلّ يدها فى العبث بالأمن السوداني وينزع تلك الورقة من بينها يديها؛ ولهذا فإن من المهم هنا أن نحاول قراءة هذا الوضع بقدر من الإمعان ونتساءل عن الكيفية والحيثيات السياسية التى على أساسها تصدّر الملف الأمني للمفاوضات وفرض نفسه فرضاً عليها؟ ما من شك أن سوء إدارة الحكومة الجنوبية لنزاعها مع السودان كان من أهمّ أسباب تصدُّر الملف الأمني للمفاوضات، فجوبا هى التى ظلت تدعم مسلّحين ينشطون ضد السودان (جنوب كردفان والنيل الازرق ودارفور) إذ أنّ ما لم يلاحظه الكثير من المراقبين ان الحكومة الجنوبية لم تنفِ أو تغالط فى دعمها لهؤلاء الناشطين المسلحين منذ أن وعدهم الرئيس الجنوبي سلفا كير ميارديت فى خطابه الشهير ظهيرة تدشين الدولة الجنوبية العام الماضي بأنهم (لن ينسوهم)! مما حدا بالحكومة السودانية تقديم شكوي مدعمة بأدلة قاطعة الى مجلس الأمن، أضطر المجلس – لأسباب معروفة – لوضعها داخل أضابير المناضد وغضّ النظر عنها الى حين إنجلاء الموقف. كان واضحاً أن المجتمع الدولي على علم بما تقوم به جوبا من عمل مخالف للقانون الدولي ضد السودان ولكنه فضَّل الصمت. وللمرة الثانية تكرّر الخرق الجنوبي بإحتلال جوبا لمنطقة هجليج غير المتنازع عليها وتكرر تقديم السودان لشكوي ثانية ضد جوبا مستصحباً هذه المرة علم مجلس الأمن بما جري ومطالبته لجوبا بالإنسحاب. كما يتذكر الجميع نصائح الرئيس الامريكي شخصياً – عبر الهاتف – للرئيس الجنوبي بالكف عن دعم المتمردين السودانيين، وهى نصائح لم يكن أوباما – رغم صلته الوثيقة بجوبا – يمارس فيها نوعاً من العلاقات العامة أو المجاملة الاجتماعية! هذه كلها مؤشرات واضحة لا يتطرق إليها الشك، تشير الي أن جوبا خلقت وضعاً أمنياً مزرياً للغاية بينها وبين السودان لا بُد من فك تعقيداته وحلحلة شفراته قبل مناقشة أىّ أمور أخري. وقد تلاحظ هنا أن المبعوث الامريكي ليمان الذى كان حاضراً فى أديس أبابا، سعي سعياً حثيثاً فى التقريب بين الطرفين ومن المؤكد أن الرجل كانت له قناعاته فى أن يأخذ الملف الأمني الأولوية، ومثل هذه القناعات قطعاً لا تأتي من فراغ. من جانب ثاني، فان الوسطاء دون شك توصلوا الى قناعة فى أن يبدأوا بالملف الأمني بصرف النظر عن أىِّ إعتبارات أخري لأن من شأن تواصل التعقيدات الامنية على الحدود أن يعرقل عملية التفاوض نفسها، ولهذا بدت السيدة رايس -الجمعة- مرتاحة بعض الشيء لما أسمته بهدوء الأحوال الأمنية بين البلدين على الأقل منذ صدور قرار مجلس الأمن 2046 فى الثاني من مايو المنصرم، أى منذ حوالي شهر من الآن. السيدة رايس كانت من حيث لا تدري أو تدري تشير الى أهمية الملف الأمني كعنصر لازم لإنجاح المفاوضات. وأخيراً فان تجربة نيفاشا نفسها التى تمخضت عنها العملية السلمية الشاملة بين الطرفين ما نجحت إلاّ حين تمَّ حسم القضية الأمنية فى مقدمة القضايا الأخري ،حيث جري التوصل الى وقف اطلاق النار، ووقف العدائيات، أمكن على أساسها حلحلة بقية القضايا الأخري. إذن الملف الأمني كان يفرض نفسه وكان السودان مصيباً فى ضرورة وضعه فى المقدمة اذا كانت هنالك رغبة فعلية فى إنجاح المحادثات!