قبل توقيع اتفاقية نيفاشا التي أعطت جنوب السودان حق تقرير المصير بعد فترة انتقالية مدتها خمس سنوات من تاريخ التوقيع تعقبها انتخابات لتقرير المصير، كانت القوات المسلحة السودانية تسيطر سيطرة تامة علي معظم جنوب السودان بما في ذلك المدن الكبري كجوبا وواو وملكال وغيرها وبناء علي هذا الوضع العسكري لم تستطع قوات الجيش الشعبي التابعة للحركة الشعبية من دخول جوبا إلا بعد التوقيع علي اتفاقية نيفاشا هذه الحقيقة يعلمها الجميع لكن حسن النوايا وحده لا يكفي في لعبة السياسة حيث ظن شمال السودان انه سيهنأ بالأمن والاستقرار بعد انفصال الجنوب بموجب هذه الاتفاقية، وانه سيتفرغ للتنمية وإعادة بناء ما دمرته الحرب بين الشمال والجنوب التي استمرت ما يقرب من (50) عاماً لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي سفن الشمال فتبخرت آمال الاستقرار والتفرغ للتنمية مع ظهور الوجوه الحقيقية للمخططات المهولة التي أعدت لشمال السودان لقلقلة أوضاعه والتعكير المستمر لأمنه واستقراره والاعتداء العسكري المتواصل علي ولاياته المتاخمة لجنوب السودان بالآلة العسكرية للجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية التي لا تزال تحكم جنوب السودان بأسلوب العصابات المسلحة وليس بأسلوب الدولة ذات القانون والمؤسسات، بالإضافة الي استخدام الآلة العسكرية للعديد من فصائل التمرد (من النيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور) التي تستضيفها حكومة الجنوب أيضاً وتفتح لها المعسكرات وتوفر لها العتاد لكن تكشف الأيام لنا سريعاً خاصة بعد اعتداء الجيش الشعبي مؤخراً علي هجليج إن ما تقوم به الحركة الشعبية وهي نفسها للأسف حكومة جنوب السودان ما هو إلا السطح الظاهر من جبل الجليد الضخم الذي وضعته أمريكا قبالة شمال السودان عقب انفصال الجنوب كدولة وليدة مستقلة!! لقد عقدت أمريكا عزمها علي تحقيق مشروعها الجديد في المنطقة الذي يهدف في الغالب الي إيجاد نفوذ حقيقي يضمن مصالحها الاقتصادية في المستقبل القريب خاصة وان رياح التغيير التي هبت علي المنطقة العربية (ثورات الربيع) قد أثبتت أنها رياح لا تتلاقي بأي شكل من الأشكال مع السياسة الأمريكية لذلك تضع أمريكا أهمية قصوي وعاجلة لمسألة تغيير نظام الإنقاذ (الإسلامي ) في السودان لكن ليس عبر الانتفاضة الشعبية التي قد يأتي بتيارات اشد عداء لأمريكا خاصة وللغرب عامة (كما حدث في مصر وتونس وليبيا) لكن عبر الحركات العسكرية المسلحة التي تتلقي دعمها من أمريكا وتدين لها بالولاء الكامل، لتشكيل في الوقت نفسه الأمل الأمريكي الكبير في التغيير،وتعرف تلك الحركات اليوم بتحالف(كاودا) الذي يضم الحركة الشعبية 0قطاع النيل الأزرق وجنوب كردفان) وحركات دارفور وبعض الأحزاب الشمالية من الداخل. يقوم المخطط الأمريكي الهادف الي بسط النفوذ الاقتصادي للولايات المتحدةالأمريكية في هذه المنطقة من القارة الإفريقية علي مبدأ الاختراق السريع لحكومة جنوب السودان والسيطرة عليها عقب الانفصال من شمال السودان مباشرة بموجب اتفاقية نيفاشا والإعلان عن جنوب السودان كدولة وليدة وجعلها تنفذ السياسات الأمريكية حرفاً حرفاً وإلا فإن مصير رئيس حكومة الجنوب وأركان حكومته سيكون متشابهاً تماماً لمصير (جون قرنق)!!. أن السياسة الأمريكية في دولة جنوب السودان يتم تنفيذها لبسط النفوذ الأمريكي علي كامل المنطقة من خلال شخصيات أعدتها أمريكا خصيصاً لهذه المهام منذ سنوات عديدة من بينهم (روجر وينتر) وهو شخصية مؤثرة جداً في مجريات الأحداث بجنوب السودان منذ سنوات طويلة وحتي هذه الأيام ويعتبر مستشاراً شديد النفوذ لدي صناع القرار في الحركة الشعبية منذ أيام قرنق ولا يزال بالصفة ذاتها حالياً مستشاراً لسلفاكير علمأً بأن نفوذه الاقتصادي والسياسي قديم في منطقة البحيرات وعلاقته قوية بإسرائيل بالإضافة الي إبرامه صفقات عديدة بين شركات السلاح العالمية الكبرى وحركات التمرد في المنطقة منذ الثمانينيات وهو المتعهد الرئيسي حالياً لإستراتيجية: (الحرب بالوكالة) التي تم التخطيط لها لجر شمال السودان وجنوبه الي آتونها وما اعتداء حكومة سلفاكير علي هجليج إلا نقطة البداية علماً بأن (وينتر) هو الرابح الأكبر من بيع السلاح الذي تنتجه شركة (لوميكس) الإسرائيلية فهو وكيلها في منطقة البحيرات وكانت (سوزان رايس) سفيرة أمريكا لدي مجلس الأمن الدولي حالياً تدير معه عمليات البيع هذه كما أن (سوزان رايس) كانت ذات علاقة وطيدة بجنوب السودان أيام التمرد خاصة مع جون قرنق وهي تلميذة وفية ل(وينتر) وهو الذي صعدها للعمل في الإدارة الأمريكية. * يعتبر (روجر وينتر) – بتوافر الصفات المذكورة أعلاه – ركناً أساسياً ضمن الأمريكيين المختصين بالشأن السودان الذين توكل إليهم الإدارة الأمريكية أمر متابعة وتأجيج الصراع في السودان باستمرار، فلم يقصر الرجل وظل يقوم بادوار خطيرة متتابعة لتحريض المجتمع الولي على التدخل العسكري في السودان، ووضع المنظمة تحت الحماية الأمريكية، وذلك من خلال سيول التهم المختلفة التي ظلت منذ سنوات طويلة ولا تزال تتدفق باتجاه الخرطوم بدون أي تراخ أو مهاودة، إلي جانب تأليب وسائل الأعلام العالمية والمنظمات الدولية ضد السودان في كل الأوقات!! لعل هذه المهام القذرة التي ظل ولا يزال يقوم بها (وينتر) ليست غريبة عليه، فقد عرف باعتراضه على الحلول السلمية تجاه السودان، وظل يعمل في المنطقة وفق مبدأ التدخل العسكري وصنع الحركات المتمردة لضمان السيطرة الأمريكية على أفريقيا، ول(وينتر) الذي سبق أن قدمه وزير رئاسة حكومة الجنوب قبل نحو عام على أنه: (صديق ومستشار للحركة الشعبية) أدواره المهمة في كل مطالبات الحركة في المفاوضات التي جرت بمنتجع نيفاشا الكيني، بعد إن حل ضيفاً على المنطقة منذ أكتوبر 2004م. * جدير بالذكر إن (وينتر) الذي برز اهتمامه بالشأن السوداني منذ الثمانينيات، كان مهتماً بالمساعدات الإنسانية في أفريقيا، خاصة الكنغو ورواندا ويوغندا، (وهو المسمي الذي يطلقونه في عالم السياسية الدولية في العصر الحديث علي العمل ألاستخباراتي ألتجسسي الذي يدخل إلي كافة الدول ممتطياً طرود الدقيق وزيت الطعام ومشمعات المخيمات والبطاطين والأدوية)، وكان قد اضطلع بمهام ضمن عملية شريان الحياة في السودان، وشارك في مجموعة الضغط على السودان في إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلينتون)، إلى جانب (مادلين أولبرايت) و (سوزان رايس)، وعرف (وينتر) في الفترة ما قبل عام 1983م بمستشار الرئيس اليوغندي (يوري مسفيني)، الصديق الشخصي ل(قرنق) وزميل دراسته في فترة الستينيات، وقد صنفه المبعوث الأمريكي الخاص للسودان (جون دانفورث) في التقرير الذي قدمه عام 2002م إلى (جورج بوش) بأنه من المساعدين المهمين له في تنفيذ مهمته في السودان، كمساعد لمدير وكالة التنمية الدولية (أندرو ناتسيوس)، كما أشاد بخبرته العميقة في السودان وبحسب (دانفورث) فإن (وينتر) كان له دور مهم في مفاوضات إنجمينا عامي 2003م و 2004م ولعل التعرف على هذا: (الدور المهم) في مفاوضات إنجمينا ليس بالأمر الصعب، عندما نجد آثاره الماثلة حتى الآن في الفوضى التي تضرب بعض ولايات دارفور!! إن قناع (المساعدات الإنسانية) هو الذي أتاح لكل من (وينتر) و (سوزان رايس) التورط في عمليات خطيرة مشتركة أدارها (ميشيل هيراري) مسؤول الموساد الإسرائيلي في منطقة البحيرات ومن بينها جنوب السودان، كما أن الرئيس اليوغندي (موسفيني) صعد للحكم في عام 1986م بتخطيط من شركات السلاح ولوردات الحرب وكان جهاز (الموساد) الإسرائيلي هو حلقة الوصل في كل ذلك!! * في الختام: هنالك ترابط واضح يتجلي يوماً بعد يوم بين السياسة الخارجية الأمريكية تجاه شمال السودان والسياسة الخارجية أيضاً لدولة جنوب السودان تجاه شمال السودان، وهو ترابط أملته وحدة التخطيط والهدف والتآمر المنطلق من بوتقة واحدة تم سبكها بعناية فائقة تحت نار هادئة، تمهيداً لإشعال النيران الكبرى التي ستأكل الأخضر واليابس بشمال السودان، في حالة غفلة الحكومة، أو ظهورها بمظهر الضعف والاستسلام للمخططات الخارجية التي تستهدفها، وفي حالة تضجر الشعب أيضاً الذي يتم تضييق الخناق عليه في معيشته من خلال تعطيل الإنتاج بحقول البترول بالشمال، ووقف تصدير بترول الجنوب عبر خط الأنابيب كي لا يجني الشمال أية عوائد بالعملة الصعبة، وأيضاً من خلال ارتفاع سعر الدولار، وبالتالي ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات وحدوث الشح والندرة، وترنح ميزانية الدولة، وارتفاع العجز فيها، وأخيراً حدوث الانهيار الاقتصادي الكبير وزوال النظام السياسي الحاكم، لتضر الفوضى بأطنابها كل أنحاء السودان، وحينما يدخل السودان في الفصل الأخير من المخطط الدولي التآمري الضخم، وهو تفتيته ومحوه تماماً من الخريطة الجغرافية للعالم المعاصر!! نقلاً عن صحيفة الأهرام اليوم 24/5/2012م