حفِل الكتاب المثير للدهشة الذى أصدره المبعوث الأمريكي الأسبق الى السودان (أندرو ناتسيوس) والذى حمل عنوان (السودان وجنوب السودان ودارفور) بالكثير من الأمور التى تدعو للإستغراب والارتياب، سواء على صعيد توصيفاته الغريبة للأوضاع فى جنوب السودان وما بين إشارته لإختلاسات القادة الجنوبيين لمليارات الدولارات وعجز الرئيس كير عن كبح جماحهم، وما بين زعمه ان دولة الجنوب الوليدة تتجه نحو إزدهار اقتصادي فريد من نوعه أو على صعيد الاكاذيب (المضحكة) بحق حول السودان، ما بين اشارته الى سعي السودان لإغتيال 2.5 مليون جنوبي يعيشون فى السودان بعد الانفصال وما بين زعمه ان الحكومة السودانية هجّرت 1.5 مليون عربي إلى دارفور لزيادة العنصر العربي هناك حتى يطغي على العنصر الافريقي! ناتسيوس أثار ضحك العديد ممن تسنَّي لهم قراءة سِفره الذى سوف يضطر عاجلاً أم آجلاً لمحاولة تصحيحه فى وقت لاحق وإلاّ اصبح سفراً يتضاحك حوله الناس وتسخر منه أفواه التاريخ لقرون وقرون قادمات على الاقل حين يقرأون قوله إن د.الترابي مولود بمدينة ود الترابي القريبة من مدينة كسلا! ولهذا فإن ما أورده ناتسيوس لا يشكل لدينا أهمية خاصة بحال من الاحوال، فالرجل سواء كان يدري أو لا يدري اعطي صورة شائهة فاقت أىّ توقعات للمبعوث الذى تم تكليفه بملف عملية سلام، وإذا به يتحول الى مبعوث استخباري وداعية لحرب يعترف بكل جرأة وبقدر غير قليل من الوقاحة أنه عمِل على تسليح الجيش الجنوبي – فى خضم عمله كمبعوث سلام – حتى يكون قوياً ومرتبطاً بالجيش الامريكي. الرجل كان فى مهِمّة لزراعة الشوك فى خاصرة السودان ومع ذلك لم يجد بأساً من أن يسطر كل ذلك فى كتاب ويخرجه للناس واثقاً مما فعل ومفتخراً بما حقق. لندع كل ذلك جانباً الآن ولنتمعَّن فى ما وراء سطوره التى تنضح بحقد وغلّ أسود نجح فى إخفاؤه وراء ابتسامته اللزجة ونظارته السميكة. ان مؤدي ما أورده ناتسيوس فى هذا الكتاب، ان دولة جنوب السودان لا تمثل للولايات المتحدة واسرائيل سوي (مزرعة) ضخمة وحقل نفطي كبير؛ وإلاّ ماذا كان يعنيه الرجل وهو يشير الى فساد القادة الجنوبيين وإلتهامهم لمليارات الدولارات بحيث يلتهم وزير مالية واحد2.5 مليار دولار! وآخر 500 مليون دولار! وبحيث تتضمن كشوفات المرتبات حسب قوله ومشاهداته أسماء أبقار. ناتسيوس يقول ذلك وفى ذات الوقت يقول إنه عمل على تسليح الجنوب، أىّ تقوية القادة الفاسدين وحمايتهم بالسلاح، ثم يبشر بمستقبل زاهر للدولة الجنوبية واقتصاد مزدهر يفوق اقتصاد الدول المجاورة! ما من عاقل يجرؤ على أن يورِد متناقضات مريعة كهذه ولكن الرجل ليس غبياً؛ هو يؤكد بهذه المثابة ان (الاقتصاد المزدهر) إنما هو اقتصاد أمريكي اسرائيلي لصالح هاتين الدولتين وليس لصالح دولة الجنوب ومفسديها المتعطشين للمال؛ أىّ بمعني آخر ناتسيوس يقول إن القادة الجنوبيين (إرتووا وإبتلّت عروقهم) بالمال (وأخذوا حقهم) وعليهم ان يفسحوا الطريق للإستثمار الامريكي الاسرائيلي بلا أىّ اعتراض. إن مؤدي ذلك أيضاً ان السلاح الامريكي ودعوة ناستيوس لتسليح الجنوب إنما هو لصالح حماية (المزرعة الامريكية) الفخمة وآبار النفط الامريكية فى دولة جنوب السودان . لقد كان ناتسيوس فى الواقع (حارس أمن) بلباس مدني أنيق للمصالح الامريكية فى جنوب السودان، وهو ينتقل الآن من مرحلة التخفِّي والمداراة الى مرحلة العمل المُعلن وترجمة الخطط على أرض الواقع!