إثر مساجلة قانونية وسياسية جرت بينه وبين مندوب السودان لدي مجلس الامن –عشية الثلاثاء الماضي– طالب مدعي عام المحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو المنتهية ولايته بتقديم مندوب السودان للمحكمة الجنائية! وبالطبع لم يكن ما جري من سجال تحت القبة الدولية وتحت سمع وبصر العالم بين السودان والمدعي المنتهية ولايته هزراً، أو ضرباً من المزاح حتى وإن كان مزاحاً ثقيلاً. كان ما يجري عملاً دبلوماسياً رسمياً لا يحتمل أىّ خروج عن الاعراف والتقاليد الدبلوماسية، مهما كانت الظروف ومهما كان مقدار الغلّ والغضب الذى يعتمل بضراوة فى صدر رجل العدالة الدولية الموتور! ولكن كانت تلك تصاريف القدر ومنعطفات التاريخ الذى أبي إلاّ أن يكشف للعالم فى آخر مشهد للممثل الدولي الفاشل، سر إخفاقات الرجل، وأسباب مرمغته لأنف العدالة المبتغاة فى وحل ومستنقعات نزواته وتصرفاته الشخصية التى ما عرفت مطلقاً الإتزان وحسن الخلق وسعة الصدر. المشهد بأكمله كان خير ختام لمن لم يدركوا بعد عبثية المحكمة، ومدعيها العام ليدركوا، بعد تسعة سنوات ثقيلة أن اوكامبو لم يكن اختياراً مناسباً ولا ما خلَّفه فى لاهاي يصلح للراهن والمستقبل. ولكن لندع توصيفات المشهد جانباً لنلج مباشرة الى الاستخلاصات الضرورية التى لا غني لنا عنها لنقف على الآثار السالبة لمثل هذه المواقف، فهي تعبر عن ذاتها بدقة شديدة. فى مقدمة ما يمكن ان نستخلصه أولاً، ان أوكامبو يبني اتهاماته ومواقفه القانونية على مجرد الإنطباع، أو بغرض اخضاع الآخرين، أو لضيق صدره بهم، فالمندوب السوداني ليس متَّهماً ولم يُوجه له أتهام من أىِّ نوع، ومن البديهي أنه لا يمكن تهديده بالاعتقال لمجرد أن موقفه فى المساجلة لم يرق لأوكامبو، أو أن منطقه السديد أغاظه. الإتهامات الجنائية لا تُبني على هذا الأساس ومن هنا يتكشف لنا أن الدور الذى قام به أوكامبو من إتهام وتجريم للمسئولين السودانيين لا يبتعد، بل لا ينفصل بحال من الاحوال عن ذات الطريقة وذات الاسلوب، خاصة والجميع يعلم أن أوكامبو ضرب سياجاً من السرية حول تحقيقاته تلك، واستخدم أناساً مجهولي الهوية فى رسم خارطة إتهام فضفاضة قائمة على أكاذيب وافتراضات لا تنسجم مع معايير العدالة وإجراءاتها ويمكن أن نستشفّ ذلك من خلال الإصرار الغريب من جانب الرجل على جعل قضية ملاحقة المسئولين السودانيين قضية عمره، وتركيزه الاعلامي على ذلك وتوسله بوسائل استخبارية بما يتنافي مع وقار المنصب ومستحقاته. الاستخلاص الثاني، أن الرجل يتعامل – بمنتهي السذاجة – مع الآخرين من واقع كونه رجل قانون قادر على اتخاذ اجراءات ضد كل من يقف محاججاً له وهذه بمثابة كارثة عدلية هائلة فى الواقع، لأن رجل القانون حتى حين يخاطب متّهَمين يخاطبهم وفى ذهنه افتراض البراءة حتى تثبت الادانة، ولكن أوكامبو أبي إلاّ أن يرمِ بريئاً لم يرق له بتهمة مجهولة، ثمنها الاعتقال! الاستخلاص الثالث، ان أوكامبو ينظر الى المسئولين السودانيين بذات هذا المنظار مما يُستدل به أنه لديه (خصومة ما) معهم وهو ما يفتح الباب واسعاً عن ما يُشاع أنه كلما رأى مسئولاً سودانياً لا يروق له، دمغه بتهمة وسعي لإستصدار قرار توقيف بحقه، وليس من المستبعد أن يسعي الرجل حتى بعد مغادرته المقعد غير مأسوف عليه الى محاولة تضمين قائمته الاستخبارية التى يحتفظ فيها بأسماء المسئولين السودانيين، إسم المندوب السوداني فى مجلس الأمن جزاءاً على وقوفه فى وجهه ومحاججته فيما قال! ليس هناك فى الواقع أصدق من هذه الحادثة (الجنائية) لإيضاح فشل أوكامبو كرجل عادي دعك من كونه رجل عدالة.