أحياناً تصبح المداخلات والخلفيات مسألة ضرورية وحيوية لتحديد حجم القضية أو المعضلة أو الأزمة أو المواجهة كما هو الحال في علاقة السودان بدولة الجنوب الوليدة (2011)، وللقبض علي خيوط إجابات علي أسئلة من نوع انهيار مباحثات أديس أبابا بين وفدي الخرطوموجوبا برعاية إقليمية ودولية هل يعتبر مفاجئاً تماماً أم متوقعاً تماماً؟ هل ممثلو حكومة الجنوب الوليدة(2011) يعبرون عن رؤية حكومتهم ومصالحها أم يعكسون وينقلون عن الأجندة الخفية (للمنظمات والدول وبوجه خاص إسرائيل) والتي كانت وحدها وراء التخطيط والترتيب والتجهيز لقيام وصناعة دولة جديدة تفقد تماماً كل مقومات البقاء والاستمرار وتفتقر لوزن أو تأثير إلا ما يخص استخدامها كأداة نافذة للحرب والاضطراب وزعزعة الاستقرار في السودان لخدمة أهداف اكبر واخطر ولصالح تغيرات جذرية مرتقبة في المنطقة ومنها الحيلولة دون تواصل واتصال السودان الشمال بشرق إفريقيا وحرمانه من الاضطلاع بدوره كجسر ناقل للحضارة والثقافة العربية لدول إفريقيا. ولم يكن التنبؤ المبكر بعدم جدوي التفاوض أو المباحثات بين الخرطوموجوبا في أديس أبابا أو في غريها يمليه التشاؤم وإنما تصنعه الحيثيات والوقائع والتحذيرات التي أطلقت مبكراً أي قبل إجراء عمليات الاستفتاء وحق تقرير المصير للجنوب والضغوط الأمريكية والدولية وإنفاذه حتى بكسر القوانين للوصول الي ما هو مطلوب أي انفصال الجنوب وقيام دولته. وكانت هنالك تحذيرات أخري ذات أهمية قصوى منها ما نقلته لندن لوفد من الحركة الشعبية بضرورة التريث التام في أمر الاستفتاء وضرورة الترتيب للأولويات لان الجنوب لا يملك في الأصل مقومات الدولة أو يعتبر البلد الذي يمكن أن يتصرف ويتعامل مع القضايا الإقليمية والدولية وهو أي الجنوب من وجة نظر لندن دولة مغلقة تماماً وبلا خبرة ولا مؤسسات ولا أجهزة ولا حتى ملفات لخلفيات ما يجري في الدول المجاورة ناهيك عما يجري في العالم. كانت نصيحة لندن أو تحذيراتها لوفد جوبا مهمة وخطيرة وتستند علي معرفة وثيقة للجنوب الذي حكمته مباشرة علي مدي 55 سنة كاملة منها سنوات عديدة اعتبرت لندن البشر فيه هو جزء من حياة ومشهد الأدغال والأحراش التي يتعين الحفاظ عليها بدون رتوش أو تدخلات من أي نوع لتكون موضع جذب للأوربيين المتقدمين ليأتو لأحراش الجنوب ليروا العالم الآخر الذي يروه ولم يشاهدوه ولا يتوقع أن يصدقوا ما يشاهدونه حيث الإنسان البدائي علي سجيته في الأحراش ومع كائناتها المتوحشة في بيئتها الطبيعية غير المصنوعة. وفي سياق هذه المداخلات وكانت هنالك تحذيرات متشددة من قبل خبراء وقانونيين ومفكرين تشدد علي حق السودان في ترتيب أولوياته بشكل متريث ومتقن لمنع الثغرات الكامنة من أي نوع ومنها عدم إجراء استفتاء تقرير المصير للجنوب إلا بعد ترسيم الحدود بين السودان والجنوب، واستناداً للحدود المعترف بها دولياً أول يناير 1956 خاصة بعد ان تسربت معلومات دقيقة من مكتب رئيس مفوضية ترسيم الحدود تفيد بأن مندوب أو ممثل الجنوب يتعمد الغياب عن جلسات اللجنة وإذا شارك فلكي يثير التحفظات والتعقيدات التي تؤخر أو تؤجل أو تجعل ن خط حول قرية او جبل وكأنه معضلة كبري وفي كل مرة يطلق أقواله بأن قضية الحدود ستأخذ طريقها لمحاكم دولية، وكان التنبيه كثيفاً ومشدداً بضرورة رفض أي ضغوط من أي نوع أمريكية أو دولية فيما يتعلق بإجراء الاستفتاء للجنوب إلا بعد الاتفاق تماماً وبمشاركة الأطراف الإقليمية والدولية علي القبول التام من جانب الجنوب بأن حدود السودان 56لا تنازع ولا تفاوض ولا تجاوز لها او تعدي عليها، وان يتم الترسيم الحدودي ووضع العلامات ميدانياً وبمشاركة الخبرة الحدودية الإقليمية والدولية ومنعاً لا ي نوع من اعتراضات بأثر رجعي من جانب جوبا، وكان هنالك أيضاً تنبيه قوي بشأن قضايا أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق واعتبارها (قنابل موقوتة) في حال اختيار الجنوبيين للانفصال بل أن مذكرة مهمة لخبراء ومفكرين تحسبت الي ما هو ابعد أي ضرورة وضع إستراتيجية الأمن القومي الوطني بدءاً باحتواء التداعيات الأمنية السالبة المحتملة للانفصال داخل حدود الجنوب المستقل وعبر الحدود نحو الشمال ودول الجوار جنوباً وشرقاً وغرباً. وجاء التشديد للتحوط والإعداد المسبق لمستحقات الانفصال علي خلفي أن الجنوبيين يفتقرون لأية خلفية ولاية خبرة ولاية رؤية ولا يمكن التسليم بأي مطالب مهما كان حجم الضغوط بدون الاطمئنان التام لتحقيق كل ما هو مطلوب لتامين حدود الوطن وسلامة أهله لان التقارير آنذاك ومن عواصم متعددة منها واشنطون وتل أبيب أكدت علي الأجندة التي تعد وتضغط علي كافة المستويات إنما تملي علي جوبا. وأظهرت وقائع لاحقة عديدة أن الدولة الناشئة في جوبا لا تملك قرارها أبداً فيما يتعلق بالتعامل أو التقارب مع الخرطوم لان الأجندة الخبيثة التي نجحت في إجراء الاستفتاء وتحقيق الانفصال وقيام دولة الجنوب برغم التحذيرات بأن قضايا ترسيم الحدود وجنوب كردفان والنيل الأزرق ودارفور وأبيي ستظل قنابل قابلة للانفجار وقابلة للاستغلال الإقليمي والدولي. ولاحظ أن هذه التحذيرات المكتوبة أطلقت مطلع 2010 عندما انتبه الجميع بأن قيادة الحركة الشعبية تستخدم تعبيرات التمويه في مسألة الوحدة الجاذبة وخروجها علي نصوص اتفاقية السلام الشامل (2005-2010) التي أفصحت عن وحدة جاذبة بإرادة شعبية من أهل الجنوب ولم تقل أبداً بانفصال من أي نوع، كما أن قيادة الحركة الشعبية أخذت تتحدث لجماهير الجنوب بأن التصويت لخيار الوحدة يعني أنهم مواطنون من الدرجة الثانية وان قطار الانفصال يمضي في الطريق المرسوم. وكشفت تقارير عديدة عن اتصالات خفية وزيارات سرية واجتماعات لقيادة الحركة الشعبية مع أجهزة المخابرات في الولاياتالمتحدة وفي إسرائيل بوجه خاص الي الترتيب للانفصال وقيام دولة الجنوب وجعل الجنوب الجديد أي بعد قيام دولته ورفع عمله وعضويته في الأممالمتحدة داخل منظومة الأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة، وحثت جوبا واشنطون علي إقامة قاعدة عسكرية وفتحت كافة التسهيلات لتل أبيب التي تجعل إطلالتها ومتابعتها لما يجري في السودان أسهل وأسرع من متابعتها عن بعد أي من تل أبيب. ووافقت لها علي رقابة الحدود وعلي إطلاق طائرة بدون طيار لتزويد جوبا وتل أبيب معاً بكل مستجدات الأوضاع في الخرطوم وعلي الحدود واعتبارها شريكاً وحليفاً في كل مخطط يؤذي السودان ومصالحه بوجه خاص والعرب بوجه عام في ظل غياب رؤية دولة راشدة وناضجة في جوبا ووجود أجندة متعددة تل ابيب والمنظمات الصهيونية والكنسية وحكومات جوار متحفزة ومتربصة وطامعة ومعادية للخرطوم. يتعين علي الخرطوم مرة أخري بحكم خبرتها ودرايتها والدروس الصعبة المستخلصة من مفاوضات نيفاشا ومن اتفاقية السلام الشامل ون مشاكسات الحركة الشعبية وهي شريك في الحكم 2005- 2010 ومن عدوان وحروب الدولة الوليدة في جوبا (2011-2012) أن تأخذ الخرطوم الحذر التام من أي جولة مفاوضات قادمة مع حكومة جوبا فهي غير مؤتمنة في جوارها ولا في مفاوضاتها ولا في تعهداتها ولا حتى في زيارات وفودها للخرطوم ونتذكر كيف جاء وفد كبير برئاسة وزير السلام السيد باقان اموم للخرطوم كبادرة سلام وصداقة وتقديم الدعوة لرئيس الجمهورية لزيارة جوبا وتصريحه المباشر انه جاء لسلام وصداقة ولا يحل وراء ظهره أو خلفه مؤامرة أو غدراً وفي اليوم التالي لمغادرته الخرطوم الي جوبا هاجمت قوات جوبا مناطق داخل حدود السودان. يتعين علي الخرطوم أيضاً أن تطلب من الوسيط الاممي والإفريقي تجاوز الواجهة أي حكومة جوبا وممثليها الي أصحاب الأجندة المعادية (تل أبيب والمنظمات وعواصم الجوار المعادية) لمعرفة مباشرة ما يريدون تجاه الخرطوم ويتعين أيضاً علي الخرطوم (الحكومة والمؤتمر الوطني) الانتباه بأن قضية الوطن وحماية حدوده وأهله قضية قومية في الدرجة الأولي وليس هنالك من مخرج امن سوي تماسك الجبهة الداخلية وتحقيق الوفاق الوطني الشامل وبأجندة وطنية متفق عليها ومقبولة من كافة القوي الوطنية والسياسية والوقوف معاً في وحدة وطنية صلبة ومخلصة لمواجهة عدائيات وعداوات حكومة جوبا الناشئة وإحباط الأجندة الخبيثة لمن يدفعونها ويقفون من ورائها. الحكومة والمؤتمر الوطني يجب أن يدركا أن الأمور والأخطار والمهددات اخطر وابعد من كل تقدير ولا ملاذ أمن للسودان ولأهله إلا في ظل جبهة قوية متماسكة وصلبة ومهيبة يصعب اختراقها أو الاستهانة بها وقوات مسلحة قوية ومتقدمة ومبادئة هو الرد علي مطامع جوبا وعلي الأجندة الخبيثة وعلي أي مفاوضات مباشرة قادمة أو مؤجلة مع إعلان دائم ومتحفز ومتيقظ علي كافة المستويات والجبهات لان جوبا وجندتها وخريطتها الجديدة بمثابة إعلان حرب ضد الخرطوم. نقلا عن صحيفة أخبار اليوم 11/6/2012