أول درس يتعلمه أطفال مدارس الأساس عن الفارق بين الإنسان والحيوان ويتمثل في أن الإنسان يتميز بالعقل والذاكرة فهو يفكر ويستوعب ويستفيد من تجاربه ويتجنب الوقوع في الخطأ أو ما يعرضه لخطر أو مهدد من أي نوع بينما الحيوان مثلا يكرر ويسير علي خطي من سبقوه أي أنه مثل الفأر يموت مثل غيره من ملايين الفئران (بالمصيدة) أو (الشرك) أو السم في الطعام وسيظل يلقي حتفه بهذه الطريقة المصيدة الشرك والسم. أنه لا يفهم لا يملك عقلاً وبلا ذاكرة وما ينطبق من معايير علي الإنسان في الإستفادة من التجارب والدروس ينطبق بالضرورة وبمستوي اكبر علي الدولة أو الدول المسؤولة عن مصائر البشر أو السكان الذين ينتمون الي البلد أي أن تستوعب الدولة الدروس والتجارب الإنسانية وتتجنب الوقوع في الأخطاء والمهددات وتتفادى المخاطر إستناداً علي مناعة الفهم والمعرفة والتجربة وتفادي الوقوع في (المحظور) أو في (الشرك) أو الإنزلاق نحو ما لا تحمد عقباه. وقد يفيد التساؤل في إطار التطورات الأخيرة هل بمقدور السودان ان يعول علي بناء الثقة والتعامل البناء والركون الي النوايا الحسنة أو المبادرات ذات الصياغة الخبرية بينما يقابلها ما مغاير تماماً وذلك بالنسبة للتعامل مع دولة الجنوب التي كانت حتى عام 2011م جزءاً من السودان؟ هل بمقدوره أي السودان أن يتجاهل حصاد أكثر من مئة سنة من عهد الإدارة البريطانية الي عهد الإدارة البريطانية الي عهد الحكم الوطني وهو حصاد مر وعدائي وربما دام في أحيان كثيرة؟ هل يمكن التعامل مع دولة بلا ذاكرة وبلا مرجعية ولا تلتزم بتعهدات ولا إتفاقيات ولا تفاهمات من أي نوع من أي مستوي؟ لابد قبل الإجابة القول بأن الحكمة من جانب الخرطوم تقتضي ضبط النفس في التعالم مع دولة الجنوب حرصاً علي تواصل مرغوب ومطلوب للمواطنين في الحدود المشتركة وتوافق جاد علي السلام والأمن والإستقرار والمصالح والمنافع المشتركة مع الرفض التام لكل أنواع العدائيات والمواجهات والتوتر والحرب فجميعها دمار وموت وخراب ولكن جوبا من أقوالها وأفعالها تمضي في الاتجاه المعاكس ولم تعد تصريحاتها ومبادراتها لها صدي أو قبول يذكر بين غالبية أهل الشمال وحتي ما تم التوصل إليه من إطار خاص بالحريات الأربع في أديس أبابا وتفاهمات وحول لقاء يجمع بين رئيس السودان ورئيس دولة الجنوب ووصول وفد سياسي تنفيذي مهم برئاسة شخصية مثيرة للجدل اتخذت مواقف عدائية صارخة ضد الشمال وأهله حاملاً لدعوة رسمية لزيارة رئيس السودان للجنوب وحتي في حديثه أي السيد باقان اموم في دعوة سودانية كريمة لا يفعلها سوي أهل السودان المتحضرين (وأنهم جاءوا للخرطوم حاملين رسالة ومبادرة للسلام وبتفكير ومنهج جديدين للعمل معاً لإعادة الأوضاع بين الدولتين الي حالتها الطبيعية المنشودة من قبل الشعبين وان مستقبل الأجيال القادمة يحتم علي قيادة البلدين الي تبادل المصالح المشتركة والعمل علي تحقيقها ) (وأنه من الخير للبلدين فتح صفحة جديدة لتوظيف الموارد الموجودة لدي البلدين لبناء الثقة بينهما) وتبدو كلماته وكأنها توحي بتحول او تغيير ولكن في رؤية المتابعين والمراقبين أن خلفية ما صنعته جوبا من خلافات وصراعات ومواجهات دفعت الي تدهور العلاقات الي وضعها الحالي أي الدخول بها الي قاع البئر حسب تعبير السيد باقان اموم قد كان هو شخصياً بأقواله وأفعاله وراء ما آلت الأمور في مسار العلاقات الثنائية فهو الذي قاد قطار الانفصال(العدائي) الي خطه المرسوم وهو أيضاً الذي ثابر علي صنع الخلافات والعداء الي حد اعلان الحرب وهو الذي وقف بنفسه علي إغلاق أبار النفط يصعب علي أي مراقب ومتابع محايد ان يصدق ما قاله في لقاء الدعوة السودانية المتسامحة (أننا لا نخبئ من ورائنا حاجة بل سلام وتعاون بين الدولتين وما في حاجة تانية). وبالطبع لن تفقد الخرطوم العريقة ذاكرتها أو إستيعابها لكافة دروس وتجارب التعامل مع الجنوب علي مر هذه الحقب وبالتالي يتحتم التريث حتى تثبت جوبا جديتها ومصداقيتها في التحول او التغيير الجديد لموقف العدائيات العلني والسري والاطمئنان التام لعدم تعاملها بأجندة مزدوجة ويجب أن تكون المبادأة أولاً في دعم وتأمين وإستقرار حدودها مع دول الجوار التي ظلت حريصة ومتمسكة بالمواثيق ةالتعهدات التي تحفظ امن وسلام الجيرة المستقرة وأيضاً إطلاع الأصدقاء وبوجه خاص الأشقاء في الدول العربية بتطورات العلاقات مع دولة الجنوب التي أظهرت عدم إلتزامها بما تعهدت به لكافة العواصم العربية علي وحدة الجنوب والشمال (الوحدة الجاذبة) مقابل الحصول علي الدعم المادي والإستثمار العربي في الجنوب وذلك إبان تنفيذ إتفاقية السلام (2005-2011) ونتذكر أن جوبا لم تكتف بذلك أبداً للحصول علي المال العربي وإنما عمدت أو إتجهت للإتجاه المضاد المعادي أي إسرائيل وقام رئيس دولة الجنوب الفريق سلفاكير بأول زيارة رسمية لدولة الجنوب ليعلن في تل أبيب (لولاكم لما حققنا الإنفصال). فعل ذلك وهو يعلم جيداً ما بين إسرائيل والعرب بوجه عام وفلسطين بوجه خاص وحثت جوبا قيادة تل أبيب لتزويدها بأجهزة ومعدات حديثة ورقابة علي الحدود مع الشمال وإقامة قاعدة عسكرية ومركز لمخابرات موساد ولذلك يتعين علي الخرطوم نقل هذه الحقائق والتقارير للعواصم العربية لتوخي الحذر في التعامل مع حكومة الجنوب والتواصل معها ليس مراعاة لميثاق الجامعة العربية أو للعلاقات الأخوية الوثيقة مع السودان لان إنفصال الجنوب الذي كان جزءاً من السودان الموحد الذي دعموه سياسياً واقتصادياً لصالح تامين الوحدة قد تحول الي دولة جوار معادية عدائية غير مأمونة الجانب ولا الجوار. ويظل المحك في التحول الجديد او التغيير من جانب جوبا ان تثبت مصداقيتها (بوقف العدائيات) وسحب قواتها من الحدود ووقف دعمها لأي حركات تهدد أمن وسلام وإستقرار السودان. وقد يأتي حديث آخر عن الدعوة الرسمية للرئيس عمر البشير لجوبا وتوقيتها ومتى؟ وهل الأفضل والأسلم التعجيل بها أم الضمانات؟ وهل أديس أبابا أم جوبا هو الخيار الأفضل؟ أن كل حادب علي شعبي الشمال والجنوب ومصالحهما وتواصلهما حريص علي فتح صفحة جديدة للعلاقات بين الخرطوم. وما قاله رئيس الوفد الرسمي الجنوبي بان الخلافات والصراعات دفعت الي قاع البئر وهو أشار الي صناعة الخلافات والصراعات التي أفضت الي الواقع المخزن الحالي والذي حذر منه بوضوح مباشر الرئيس عمر البشير في لقاء جوبا 2010بقوله ان أسوأ السيناريوهات هو الانفصال واسوا الانفصال هو الذي يتحول من حوار وتواصل الي توتر ومواجهة. الخرطوم كدولة لديها ذاكرة ودروس وتجارب يفترض أن تتحسب لكل خطوة حتى يتأكد أن الطرف الآخر يمتلك إرادة التصويب والتصحيح لصالح الجوار الحسن. نقلا عن صحيفة أخبار اليوم26/3/2012