كائنا ما كان حيز السياسة الخارجية المتاح أمام الرئيس المصري الجديد محمد مرسي، فهو يكفي لكي يثير القلق في مفاصل الدولة العبرية التي بات عليها من الآن فصاعداً أن تشعر بالحنين إلى أيام الرئيس السابق حسني مبارك . فالواضح أن الوافد الجديد يريد تعديل سياسة بلاده الخارجية بطريقة لا يعود معها بوسع تل أبيب أن تشن حرباً ماحقة على الحدود المصرية في غزة وأن تنتهي هذه الحرب بمؤتمر ينعقد في مصر ليس لإدانة المعتدي وإنما من أجل معالجة نتائجها الكوارثية وبالتالي تخفيف الأضرار عن الضحايا من جهة وتحجيم الآثار المعنوية عن الجلاد من جهة أخرى . وستشعر “إسرائيل" بالحنين إلى العهد المصري السابق الذي كان يقفل معبر رفح خلال الحرب وأثناء الحصار بل يستجيب للضغوط الدولية التي أدت إلى توقيع اتفاقية معبر رفح بحيث يكون تحت السيطرة “الإسرائيلية" من دون الوجود “الإسرائيلي" في غزة . بكلام آخر أتاحت الاتفاقية ل “إسرائيل" أن تراقب بوابة رفح عن بعد بوساطة الكاميرات، وأن تتدخل فوراً لمنع خروج أو دخول هذا العابر أو ذاك كما لو أنها موجودة تماماً على المعبر . وفي السياق سيكون على الدولة العبرية أن تذرف الدمع على الرئيس المصري المخلوع الذي نأى ببلاده عن لعب دور فعال في الشرق الأوسط، الأمر الذي أدى إلى نشوء فراغ كبير في المنطقة عبأه الصهاينة عدواناً وغطرسة واغتيالات واستخفافاً بسيادة الدول وحدودها، فضلاً عن مواصلة نهب الأراضي الفلسطينية من دون عائق أو رادع، فضلاً عن الاستخفاف بالسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة وبالتالي الرهان على الوقت لنهب الأرض وتدوين الاستقلال الفلسطيني في المفكرة الإغريقية . ثمة من يعتقد أن إعلان الرئيس المصري الجديد عن احترام المعاهدات والمواثيق الدولية من شأنه أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وبالتالي اعتماد سياسة مبارك الخارجية من دون مبارك نفسه، وهو اعتقاد صحيح وخاطئ في الآن معاً . فالصحيح أن الثورة المصرية لن تشمل كامل مساحة السياسة الخارجية على الأقل في الظروف الراهنة، ذلك أن الحكومة الجديدة تحتاج إلى مساعدة القوى العظمى من أجل مواجهة الأعباء الاقتصادية والآثار الاجتماعية المتراكمة خلال سنوات مبارك الطويلة، لذا يبدو من غير المتوقع أن تنتهج سياسة تصادمية مع هذه القوى، لكن بالمقابل تتمتع حكومة مرسي بهامش كبير للمناورة كان مهملاً في العهد السابق فالمعاهدات الدولية ليست كتباً مقدسة وبالتالي يمكن تجاوزها أو العمل خارج بنودها أو تحريف هذه البنود . . إلخ، ولعل النية المصرية المعلنة بالعودة إلى احترام الاتفاقيات تعني أن القاهرة عازمة على الإفادة من هامش واسع للمناورة تتيحه الاتفاقات نفسها وبالتالي الدفاع عن المصالح المصرية وطي صفحة “النأي بالنفس" عما يدور في الشرق الأوسط . ويفهم من الإصرار على هذا الجانب في خطاب الرئيس المصري الجديد وفي التصريحات التي أدلى بها خلال حملته الانتخابية أن مرسي سيعتمد سياسة خارجية براغماتية لا تنطوي على مجابهة مع الدول العظمى و"إسرائيل"، لكنها بالمقابل لن تتضمن محواً للصوت المصري عندما يتعلق الأمر بحدث مركزي في المنطقة شأن الحرب “الإسرائيلية" على لبنان التي غابت عنها مصر تماماً وبدت قطر اللاعب الأبرز فيها، بل ثمة أخبار منشورة في وسائل الإعلام “الإسرائيلية" تفيد أن الرئيس السابق حسني مبارك كان يحث “الإسرائيليين" على إطالة أمد حرب لبنان، والراجح أن شيئاً من هذا القبيل لن يتكرر في عهد الحكومة الجديدة . تبقى الإشارة إلى أن الرئيس المنتخب لن يكون بوسعه إهمال تطلعات الشعب المصري إلى حكومة تفرض احترام مصر في محيطها، فالثورة المصرية لم تندلع لأسباب مطلبية اقتصادية فحسب، بل قامت أيضاً من أجل رفع رؤوس المصريين ومن أجل أن تستعيد بلادهم مكانتها التي انحدرت إلى القاع خلال العقود الثلاثة الماضية . ما من شك في أن وقت تقزيم السياسة الخارجية المصرية قد انتهى، كائناً من كان حاكم مصر في هذه المرحلة، ذلك أن الحراك المصري في ميدان التحرير حمل الرئيس السابق حسني مبارك على الرضوخ لإرداة الشعب والاستقالة من الحكم، وهو سيحمل دون شك خلفه على الرضوخ أيضاً لمطلب الشعب بتغيير السياسة الخارجية من موقع التبعية والنأي بالنفس وتغييب الدور المصري في الشرق الأوسط، إلى رفع الصوت وحماية المصالح المصرية “أينما كانت" وبالوسائل المناسبة على حد تعبير الرئيس محمد مرسي . يفضي ما سبق إلى سؤال يطرح نفسه بقوة: هل لعبت الدول الكبرى لعبة الديمقراطية في مصر كي تتضرر مصالحها ومصالح “إسرائيل" وكي تكسب منافساً كبيراً في إدارة شؤون الشرق الأوسط؟ والجواب البديهي هو أن الدول المعنية فوجئت بالثورة المصرية مثلما فوجئت بالثورة التونسية، وبالتالي اضطرت في مصر كما في تونس إلى أن تواكب التيار الثوري وأن تقبل تحكيم الرأي العام المصري في حكام بلاده وفي مجمل سياساتها والخارجية منها في المقام الأول، فمستقبل هذا البلد الاستراتيجي لا يرسم داخل حدوده فحسب وإنما خارج هذه الحدود . المصدر: الخليج 27/6/2012م