راهنت قوى المعارضة السودانية وربما لا تزال تراهن على سقوط الحكومة السودانية إثر الأزمة الاقتصادية الماثلة. رهان المعارضة لم يكن الأول وربما لن يكون الأخير، فمنذ العام 1989 وذات هذه القوى المعارضة تقدِّر الشهر والشهرين لسقوط الحكومة، ولسنا فى حاجة إلى إستدعاء المقولة المشهيرة لما عُرف بالتجمُّع الوطني فى عقد التسعينات حين إلتأم شمل فصائله فى العاصمة المصرية القاهرة وإعتقد أن ساعة القطاف قد حانت فأورد مقولته الطريفة حينها (سلم، تسلم)! ومن المعروف ان قادة ما يُطلق عليه قوى الإجماع الوطني عقدوا إجتماعاً قبل نحو من أسبوعين بمدينة أمدرمان كانت أبرز مخرجاته تحديد الأُطر والهياكل التى تعقب الإسقاط. لا أحد يعرف على وجه الدقة والتحديد طبيعة حسابات وتقديرات هذه القوى، ولكن ما من شك أنها أدمنت الخطأ فى الحسابات، سواء كان ذلك عائد لجهلها بما إستجدّ فى الساحة السودانية من متغيِّرات تجاوزتها تجاوزاً كبيراً؛ أو لأنّها ولفرط حالة الخيبة والقعود التى تعاني منها لم يعد لديها سوي الحلم وتزجية الوقت بالتمنيات والرغبات! لعل أهمّ تقدير أخطأت فيه قوى المعارضة أنها أوحت للمواطنين السودانيين أنها تجلس فى (آخر الشارع) فى إنتظاره حين يعود من مهمة إزالة النظام الحاكم! المواطن السوداني مستنيراً كان أو من العامة يدرك أن قوى المعارضة ظلت تسجل الفشل تلو الفشل فى الساحة السياسية منذ قرابة ربع قرن! حملت السلاح وخرّبت الممتلكات وروّعت الآمنين! خرجت الي الخارج وألّبت الأجانب وتسملت أموالاً ووقعت على فواتير باهظة مؤجلة مأخوذة لا محالة من حسابه الوطني الخالص فى المستقبل القريب. تحالفت مع أعدي أعدائه، سواء فى يوغندا أو جوبا، أو واشنطن أو تل أبيب. بعضها ضُبِطت معه وثائق بهذا الصدد، وبعضهم تمَّ رصده وهو يغشي السفارات الأجنبية ليلاً باحثاً عن (النثريات) والمال السهل! وحين كانت فى سدة السلطة منتصف الثمانينات تركت معاش المواطنين ومشروعاتهم الإنمائية والخدمية وإنغمست فى خلافات ومكايدات سياسية تتشكل فيه الحكومة خمس مرات فى الساعة الواحدة! وتركت الجيش السوداني بكل شرفه وعنفوانه منزوع السلاح، فاقدة الوِجهة، بلا ذخائر ولا أسلحة ولا حتى رؤي عملية جادة. هو مسلسل مطول من الاخفاقات لا يمكن للذاكرة الشعبية السودانية أن تمحوه أو تنساه. ومع كل ذلك لم تجد حرجاً فى تحريض الشعب السوداني على أن ينتفض وهى فى انتظاره فى آخر زواية مظلمة من الشارع لتتسلم منه الثمار والقطاف اليانع، ثم لا شأن لها به. ولعل أكثر ما عمل على إسقاط المعارضة فى هذه المناسبة الخطأ، أنها سارعت بتحضير كافة (مواد الإحراق والإشعال)، ظناً منها أن الإشعال والإحراق كفيل بإشعال مخاوف السلطة الحاكمة ومن ثم سقوطها. لقد رسخت هذه التصرفات فى ذهن المواطنين السودانيين ذات الإعتقاد السائد، أنه إذا ما سايرها فسوف يفقد كل شي، إذ أنه وبدلاً من المعاناة الاقتصادية التى يمكن إصلاحها بمزيد من الصبر والمثابرة والاحتمال، فسوف يفقد الإستقرار السياسي والأمان وتصبح بلاده نهباً للأجانب واجهزة المخابرات الأجنبية، وعبث العابثين؛ إذ كيف لقوى معارضة لها (علاقة خفية وثيقة) بالحركة الشعبية الحاكمة فى جنوب السودان والنظام اليوغندي، وبعض مسئولي الادارة الامريكية أن تقود عملية تغيير سياسي وطني تعقبها عملية بناء وطني جاد ورخاء اقتصادي؟ لقد جاء رهان هذه القوى خاطئاً لأنها -للأسف الشديد- ما تزال تراهن على إنسان سوداني ما عرفته مطلقاً ولا فى وسعها أن تعرفه فى المستقبل القريب. من جانب آخر وفى ذات هذا السياق، فإن قوى المعارضة خلطت ما بين موجة الغضب الشعبي التى وقفت فقط عند حد الشعور بالأزمة، وما بين إمكانية أن تمضي هذه الغضبة لأكثر من ذلك لتغيير كامل. لو أنَّ الشعب السوداني عازمٌ على إزالة نظام الحكم القائم لما انتظر سانحة كهذه، ولا انتظر قوي معارضة أضعف من الضعف نفسه؛ تعترف بضعفها ولا تملك برنامجاً عملياً ولا رؤي ثاقبة. لقد سقطت القوى المعارضة فى مستنقع الأوهام قبل أن تبدأ بإسقاط النظام!