مع أن انقضاء الزمن المحدد لمفاوضات أديس ما كان ينبغي أن يشكل في حد ذاته مصدراً للقلق لأن من الطبيعي أنه أية مفاوضات مهما جرت أحاطتها بالضمانات والقيود الزمنية والضغوط مرشحة للنجاح والفشل، فإن الحكومة الجنوبية فيما يبدو – وبالمخالفة لأي حسابات – تبدو معولة علي ما قد يترتب علي فشل العملية التفاوضية. جوبا ربما تكون قد تلقت وعوداً سرية من أطراف معروفة في مجلس الأمن بأن ما هو آتٍ خير مما قد مضي. جوبا أيضاً قد تكون بنت كل حساباتها وتوقعاتها علي مشهد آخر لم يظهر علي أفق المسرح السياسي العريض في أديس. ولكن بالمقابل فإن كافة المراقبين والمحللين السياسيين تراجعت مؤخراً كل توقعاتهم السالبة لما بعد انتهاء المهلة الزمنية في الثاني من أغسطس المقبل. فالأمور بدت عصية علي التصدر السطحي الساذج، بأن مجتمع مجلس الأمن هكذا ويصدر قرارات تدين الخرطوم وفي الوقت نفسه تلزمها بما لا تود الالتزام به وضد إرادتها السياسية. ما من عاقل يعول علي تصور كهذا رغم كل ما هو معروف من انحياز أعمق لجوبا وتحامل أصم ضد الخرطوم. الأمر أكبر من ذلك بكثير، فالمجتمع الدولي يعلم أن انسداد الأفق السياسي بين الدولتين معناه العودة الي الحرب. والحرب لم تعد خياراً ممكناً في ظل حالة الإنهاك الشديد التي تعانيها الدولة الجنوبية الوليدة خاصة إذا قرنا ذلك بتقرير البنك الدولي المعروف والذي يتنبأ بانهيار الدولة الجنوبية في هذا الشهر. وما من شك أن أشواكاً عديدة جرت عمليات غرسها تحت مائدة التفاوض في أديس وبحر دار جعلت جوبا تحاول فض المفاوضات مبكراً حتي تفسح المجال لمجلس الأمن ليفكر في الطريقة التي تحلو له في مواجهة مع الخرطوم. أشواكاً عديدة وضعتها جوبا في خاصرة التفاوض وبين جنبات القاعة الأنيقة في أديس أبابا وبحر دار ليس الآن ولكن منذ أن جلس الطرفان ليتفاوضا حول قضاياهما الخلافية العالقة. ولعل من الملاحظ في هذا الصدد أن الممسكة بالملف الجنوبي في واشنطن وهي المندوب الامريكية في مجلس الأمن (سوزان رايس) لزمت الصمت منذ أشهر ولم تصرح أي تصريح طوال فترة جولات التفاوض التي بدأت عقب صدور قرار مجلس الأمن. البعض عزا ذلك الي أن (رايس) قد وجدت في رئيس الوفد التفاوضي الجنوبي (باقان أموم) خير معين لها في إدارة العملية من علي البعد بحكم ثقتها المفرطة في (إخلاص أموم) وقدراته المعروفة في زرع الأشواك وتحطيم أي آنية ورود علي مائدة التفاوض. أموم حتي الآن لعب اللعبة بكاملها دولة دون أن يكل أو يمل ودون أن يضطر رايس لرفع صوتها أو الظهور إعلامياً للتعليق علي ما يجري . وتشير متابعات (سودان سفاري) الخاصة من نيويورك أن الهاتف الشخصي ل(رايس) والذي تخصصه في العامة للمهاتفات الخاصة جداً خارج الإطار الرسمي ظل مقتصراً فقط علي إدارة العملية التفاوضية في أديس وبحر دار وأذن أموم تصغي إصغاءً وافر الإخلاص والأدب والهدف المعلن والمخفي معاً هو أن لا تسفر المفاوضات عن شئ ذي بال وإذا أمكن فإن المطلوب الحصول علي سعر (رمزي) للنفط يجنب جوبا مشقة خوض أيحة مفاوضات جادة!! ولا بأس في هذا الصدد – بحسب فكرة رايس – من إظهار الجانب الجنوبي لبعض (حسن النية) وبعض المشاعر الدبلوماسية الدافئة. كما لا بأس من عقد قمة رئاسية بين الرئيس كير والبشير (لأغراض العلاقات العامة فقط). وهو ما حدث بالفعل، فالرئيس كير عملياً خارج حسابات اللعبة ولكنه عنصر مساعد فيها. هذا المشهد الريالي في أديس أبابا بكامله من بنات أفكار رايس وإصغاء أموم المخلص ولهذا فإن ما تم غرسه من أشواك تحت مائدة أديس يكفي ويفيض لإنجاح المفاوضات ظاهرياً والإجهاز عليها وقتلها باطنياً. وغداً سوف تشرق شمس جديدة تظهر المشهد كاملاً للجميع!